ما تزال فرنسا تعيش على وقع الصدمة التي أحدثها قرار الرئيس إيمانويل ماكرون بحل الجمعية الوطنية والدعوة لانتخابات مبكرة، وذلك بعد فوز حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، بأغلبية ساحقة في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، متقدمًا على حزب النهضة بزعامة ماكرون. وسجلت أحزاب اليمين المتطرف تقدماً في عموم أوروبا، بحصولها على المركز الأول في إيطاليا وفرنسا والثاني في هولندا وألمانيا.
ويشكل قرار ماكرون برأي العديد من المراقبين "مقامرة" محفوفة بالمخاطر، قد تقود في النهاية بالفعل إلى وقوع فرنسا تحت حكم اليمين المتطرف لأول مرة في تاريخها. ولا شك أن ماكرون أراد أن يصدم الفرنسيين، ويضعهم أمام الوقائع مباشرة، ويدفعهم إلى أن يقرروا بشكل واضح لا لبس فيه، ما إذا كانوا يريدون أن يحكمهم اليمين المتطرف، متأملاً أن تتغلب "الحكمة والوعي" في نهاية المطاف، وأن يختار الفرنسيون "الخيار الصحيح" عند لحظة الحقيقة.
غير أن استطلاعات الرأي تشير حتى الآن إلى أن حزب "التجمع الوطني" اليميني يحظى بأكبر قدر من التأييد قبل الجولة الأولى من التصويت المقررة في 30 يونيو حزيران الجاري، يليه التحالف الجديد من الأحزاب اليسارية (الجبهة الشعبية الجديدة) في المركز الثاني، بينما ستحصل مجموعة ماكرون الوسطية "معاً" على المركز الثالث.
وقد حذر وزيرا الداخلية والمالية في حكومة ماكرون، من أن فرنسا، والعاصمة باريس بالذات، قد تواجه اضطرابات أهلية وأعمال عنف مرتبطة بالانتخابات البرلمانية، فيما تسود مخاوف عميقة أوساط الجالية العربية والمسلمة، وعموم المهاجرين في فرنسا، من إمكانية وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، مع ما يحمله من أفكار معادية للمهاجرين عامة، وللمسلمين خاصة، وما قد يسنه من قوانين للتضييق عليهم، وتقييد حرياتهم على صعيد المعتقد واللباس، والطقوس الإسلامية مثل منع "الذبح الحلال" ومنع ارتداء الحجاب في كل الأماكن العامة، فضلاً عن التشدد في منح الإقامات والجنسية للمهاجرين.
ليس بالأمر الهين حتى على اليمين المتطرف، حتى لو حقق فوزاً ملموساً في الانتخابات البرلمانية، أن يسن قوانين تجعل من فرنسا دولة عنصرية أو فاشية.
تعيش فرنسا هذه الأيام لحظات فارقة في تاريخها، ولا شك أن سياسات ماكرون التي أراد من خلالها الوقوف في الوسط حتى لا يُحسب على اليسار أو اليمين، شكلت ارتباكاً شديداً في الأجهزة السياسية للدولة، ولدى الشعب الفرنسي عموماً، حيث لم يقدم ماكرون منذ وصوله الى السلطة عام 2017، أية أجوبة مقنعة لهواجس الجمهور الاقتصادية والاجتماعية، وينظر إلى سياساته على نطاق واسع بأنها تصب في مصلحة الأثرياء، فتزيدهم ثراء، وتزيد الفقراء فقراً، بينما الأداء الاقتصادي يتراجع، والأجور تتآكل، أمام ارتفاع الأسعار وتزايد الضرائب.
وفي هذا المشهد الاقتصادي الملتبس، تستغل أحزاب اليمين شعور عموم الناس بالضيق، لتضخ دعاية مزيفة تحمل المهاجرين عموما، والمسلمين منهم خصوصاً المسؤولية، وبأنهم يشكلون خطراً على المجتمع الفرنسي، حيث يكثر الحديث في الإعلام قبيل كل انتخابات عن خطر الإسلام الذي يُخلط بشكل متعمد مع التطرف الإسلامي، ويوضع الجميع في سلة واحدة.
وفي الوقت نفسه، يرى البعض أنه حتى إذا وصل اليمين المتطرف إلى السلطة، وتولى جوردان بارديلا (الزعيم الشاب للتجمع الوطني بقيادة ماري لوبان والذي يبلغ 28 عاماً فقط) رئاسة الحكومة، فإن ذلك لن يغير كثيراً على أرض الواقع، وليس بالأمر الهين حتى على اليمين المتطرف، حتى لو حقق فوزاً ملموساً في الانتخابات البرلمانية، أن يسن قوانين تجعل من فرنسا دولة عنصرية أو فاشية، خاصة أنها محكومة بدستور صارم، لجهة التمسك بمبادئ الجمهورية والعلمانية.
ليس لدى ماكرون ما يقدمه للجمهور الفرنسي سوى الخطابات العاطفية التي تحاول حثهم على التمسك بقيم الجمهورية، وعدم السماح بوصول اليمين إلى الحكم في فرنسا التي طالما كانت معقل الديمقراطية في أوروبا.
كما أنه من غير المتوقع أن تتمكن أحزاب اليمين من الحصول على أغلبية مطلقة في الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) أي 289 صوتاً من أصل 577، لتتمكن من تمرير القوانين التي تريدها دون الحاجة الى دعم الأحزاب الأخرى، وهي المعضلة التي يواجهها حزب ماكرون اليوم والذي لديه 250 نائباً فقط، ما يضطره إلى طلب الدعم من أحزاب أخرى عند التصويت على قوانين جديدة في البرلمان، ولعل هذا من الأسباب الرئيسية التي دفعت ماكرون للدعوة إلى انتخابات مبكرة.
وقد عرفت فرنسا بالفعل سابقاً حكومات مزدوجة، بحيث يكون الرئيس ينتمي لحزب، ورئيس الحكومة لحزب آخر، وهذا قد يضع البلاد أمام تعقيدات جديدة، وحالة من الشلل الحكومي، قد تدفع في المحصلة ماكرون إلى الاستقالة، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة أيضاً، بدل المقررة عام 2027.
وقبيل أيام قليلة من الانتخابات، ليس لدى ماكرون ما يقدمه للجمهور الفرنسي سوى الخطابات العاطفية التي تحاول حثهم على التمسك بقيم الجمهورية، وعدم السماح بوصول اليمين إلى الحكم في فرنسا التي طالما كانت معقل الديمقراطية في أوروبا، ومن برلمانها انبثقت المصطلحات الشهيرة، اليمين واليسار والوسط، محاولاً استمالة بعض الفئات المترددة من الشعب، وخاصة الشباب والنساء والمهاجرين، بينما سيقع أغلب المصوتين في حيرة، لأنهم في اعتراضهم على سياسات ماكرون، لا يجدون أمامهم سوى أحزاب اليمين المتطرف أو اليسار المتطرف، وهو ما يرجح ألا تسفر الانتخابات الحالية عن نتائج حاسمة أيضاً، ما يجعل البلاد تواصل الدوران في الحلقة المفرغة نفسها.