تعتبر الانتخابات الرئاسية التركية المزمع إجراؤها بعد أشهر أحد أبرز الأحداث السياسية على أجندة هذا العام، بينما يسعى الرئيس رجب طيب أردوغان إلى تمديد حكمه إلى عقد ثالث، وحتى أولئك الذين يتمنون رحيله لا يمكن أن يكونوا متفائلين بشأن من أو ماذا سيأتي بعد ذلك.
ستشكل نتيجة الانتخابات فارقا في الحسابات الجيوسياسية والاقتصادية في واشنطن وموسكو، فضلاً عن العواصم في جميع أنحاء أوروبا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى حيث إن ما يحدث في تركيا لا يبقى فقط في تركيا فقد تكون تركيا قوة وسطى، لكن القوى العظمى لها مصلحة في انتخابها.
اقتصاديا سيقرر الأتراك الذين عانوا خلال السنتين الماضيتين بسبب ارتفاع معدلات التضخم وانهيارات العملة ما إذا كانوا سيمضون قدمًا في رؤية الرئيس رجب طيب أردوغان لاقتصاد شديد المركزية، أو التخلي عنه من أجل العودة المؤلمة إلى العقيدة الاقتصادية الليبرالية والاقتصاد الحر.
ستحدد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، التي ربما تكون الأكثر أهمية في تاريخ الجمهورية الممتد لقرن إذا كان أردوغان وحزب العدالة والتنمية، سيدخلون العقد الثالث في السلطة.
يمثل التصويت مفترق طرق بالنسبة للأتراك المتضررين من أزمة تكاليف المعيشة الناجمة عن التضخم والذي بدأ بالانخفاض مؤخرا بشكل إحصائي اسمي بتأثير القاعدة الأساسية وتغير سنة القياس.
يراقب المستثمرون الأجانب أيضا، الذين عاشوا في السنوات الخمس الماضية وسط اضطرابات متكررة في السوق وتبني أنقرة لسياسات اقتصادية غير تقليدية، عن كثب هذه الانتخابات.
تنقسم آراء الخبراء الاقتصاديين حول مصير الليرة التركية بعد الانتخابات، فالبعض منهم يرى أن فوز المعارضة سيعزز من القوة الشرائية لليرة لأن وصولها الى السلطة يعني العودة إلى قواعد الاقتصاد الحر والانقلاب على النموذج الاقتصادي الحالي.
في حين يرى البعض الآخر أن حجم الاختلالات في الاقتصاد الكلي والتي تراكمت نتيجة السياسات الحالية سيشكل تحديا كبيرا لأي حكومة قادمة بغض النظر عن هويتها.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن أردوغان قد يحتفظ بالرئاسة بينما يفقد حزب العدالة والتنمية ذو الجذور الإسلامية السيطرة على البرلمان.
وربما هذه قد تكون النتيجة "الأسوأ" ، لأنها ستؤدي إلى عدم اليقين بشأن السياسة قصيرة الأجل وتقلبات السوق.
يوضح المخطط أدناه مقارنة بين معدل التضخم السنوي في تركيا ومعدلات التضخم في الأسواق الناشئة والمتقدمة الأخرى منذ 2019 إلى الآن:
لم يبدُ حكم أردوغان أكثر عرضة للخطر من قبل، حيث يشكل الاقتصاد له كعب آخيل لنموذجه الاقتصادي القائم على الرفض لأسعار الفائدة المعاكس لقوانين الاقتصاد التقليدي، وتصميمه على خفضها إلى 9٪ من 19٪ في ظل موجة عالمية تاريخية من رفع أسعار الفائدة والتشديد النقدي أدى إلى انهيار الليرة في أواخر عام 2021 وهبوطها بنسبة 30٪ أخرى العام الماضي - وهو الانخفاض السنوي العاشر على التوالي. ارتفع التضخم إلى أعلى مستوى له في 24 عامًا عند 85 ٪ في أكتوبر مع تضخم تكاليف الغذاء والوقود والإيجار وسجلت البلاد عجزا قياسيا في الحساب الجاري والميزان التجاري على الرغم من الارتفاع القياسي في الصادرات إلا أن الواردات ارتفعت بوتيرة أكبر بسبب ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج، بالإضافة إلى عجز كبير في الموازنة العامة وهبوط في مؤشرات القطاع الصناعي وبقاء معدل البطالة فوق 10%.
لمواجهة توترات الناخبين، أطلقت أنقرة إنفاقًا قياسيًا على المساعدات الاجتماعية بقيمة 1.4٪ من الميزانية السنوية، بما في ذلك دعم الطاقة، ومضاعفة الحد الأدنى للأجور، والسماح لأكثر من مليوني تركي بالتقاعد على الفور. مما سيضع ضغطا كبيرا على الخزانة العامة ويشكل مشكلة كبيرة لأي حكومة قادمة.
يوضح المخطط أدناه تطور قيمة الليرة منذ عام 2014 إلى الآن:
لا يزال لدى تركيا مستويات ديون أقل بكثير من معظم البلدان الناشئة، لكن سنوات من استنفاد احتياطي العملات الأجنبية، وتآكل احتياطي البنك المركزي وضياع استقلاليته تركت بصماتها بشكل عام على الاقتصاد التركي.
تراجعت التصنيفات الائتمانية من وكالة موديز وفيتش من الدرجة الاستثمارية في عام 2016 إلى "غير المرغوب فيه" - على قدم المساواة مع بوليفيا والكاميرون.
إن نموذج السوق الحرة التركي بدأ في التحول منذ عام 2017 عندما تبنت تركيا نظامًا رئاسيًا تنفيذيًا يركز السلطة في يد أردوغان.
خفض الأجانب حيازاتهم من السندات الحكومية التركية إلى أقل من 1٪ من 20٪ في عام 2017 ويملكون الآن 30٪ فقط من سوق الأسهم، مقارنة بـ 65٪ قبل بضع سنوات. مما تسبب في خروج كبير للعملات الأجنبية.
الأتراك الذين يبحثون عن وسيلة للتحوط من ارتفاع الأسعار ملؤوا الفجوة، مما ساعد على رفع مؤشر إسطنبول (.XU100) بنسبة 200٪ العام الماضي. وهم يمثلون الآن 70٪ من حيازات الأسهم، ارتفاعا من 35٪ في عام 2020.
يوضح المخطط أدناه حيازات سوق الأسهم التركية بين السكان المحليين والمستثمرين الأجانب:
تعتبر خطة الودائع المصرفية التركية المحمية من انخفاض قيمة العملة، والتي تم تقديمها لوقف هبوط الليرة في عام 2021، مثالاً على النهج غير التقليدي والمكلف أحيانًا.
ومع ذلك، يبدو أنه نجح على المدى القصير، حيث أوقف ارتفاعًا استمر لسنوات في تحويل الأتراك الليرة إلى دولارات.
في غضون ذلك، ساعد الحقن في خزائن الدولة من دول "صديقة" مثل قطر وروسيا، وانتعاش السياحة، على بقاء الليرة تقريبًا بين 18.0 و 18.8 مقابل الدولار منذ أغسطس، في الوقت الذي بدأت فيه تقييمات استطلاعات الرأي تميل لصالح الرئيس أردوغان.
يوضح المخطط المرفق أدناه الحجم المتداول من أوراق الليرة التركية:
إن الليرة، التي فقدت أكثر من 90٪ من قيمتها مقابل الدولار منذ عام 2008، لا تزال مُبالغ فيها بنسبة 15٪ بناءً على الاختلالات الاقتصادية والتحفيز المالي. حيث إن تحفيز الائتمان يبقي النمو أعلى مما تستطيع تركيا أن تحافظ عليه حقًا".
وهذا يعقد خيار الناخبين الذين قد يواجهون انكماشًا اقتصاديًا أوليًا مؤلمًا إذا كان فوز المعارضة سيقود إلى العودة إلى سياسات السوق الحرة. فعلى الرغم من أن الوضع الاقتصادي الحالي يطلق عليه اسم حالة (توازن غير مستقر)، لكن من الصعب الخروج منه بدون تضحيات مؤلمة.
في عام 2018 عندما كان الاقتصاد التركي في أوجه حيث كان التضخم من رقم واحد وهناك فائض في الحساب الجاري والميزان التجاري وعجز الموازنة يشكل نسبة ضئيلة من الناتج المحلي الإجمالي والليرة التركية عند مستوى أقل من ست ليرات مقابل الدولار الواحد، فاز أردوغان بنسبة 52% وبعده بعام خسر حزب العدالة والتنمية الانتخابات البلدية في إسطنبول وأنقرة، لذلك تبدو المهمة هذه المرة أكثر تعقيدا، ومن منظور اقتصادي احتمالات الخسارة أكبر من احتمالات الفوز خصوصا أن سيكولوجية الجماهير عندما لا يعمل الاقتصاد بشكل جيد تميل للخصم انتخابيا حتى ولو لم يملك برنامج اقتصادي أفضل، في حين يبقى الاستقرار أحد أهم العوامل التي تؤثر في قرار الناخبين حتى لو كان الاقتصاد متعثر وخصوصا أن المعارضة فشلت حتى الآن في اختيار مرشح لديه برنامج اقتصادي واضح، فما هو العامل الذي سيكون الأكثر تأثيرا على قرار الناخب التركي الاقتصاد المتعثر أم الاستقرار؟