بعد أشهر من المفاوضات النووية بين إيران والدول الكبرى وصلت المناقشات إلى نقطة حرجة أضفت حالة من الغموض وعدم اليقين على ما يجري في أروقة مقر الأمم المتحدة في جنيف حيث تجري المحادثات، وعلى الرغم من حالة التفاؤل التي سادت خلال الأسبوعين الماضيين حولَ قربِ إحياء الاتفاق النووي الذي تم إبرامه أول مرة عام 2016 في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وتراجع عنه خلفه دونالد ترامب وأعاد فرضَ كل العقوبات الاقتصادية على إيران لتصبح مسألة إعادة إحياء الاتفاق إحدى أهم نقاط البرنامج الانتخابي للرئيس الحالي جو بايدن.
الاتفاق الذي من المحتمل إبرامه سيعيد إحياء اتفاق عام 2016 من خلال الالتزام بخطة عمل مشتركة تتضمن تراجع إيران عن أجزاء من برنامجها النووي من خلال الحد من إنتاج اليورانيوم المخصب واختبار أجهزة الطرد المركزي وقبول عمليات التفتيش الدولية، في المقابل تقوم الولايات المتحدة برفع تدريجي للعقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران والتي تعدّ الأقسى في التاريخ حيث حرمت إيران من بيع نفطها في الأسواق العالمية وأخرجتها من نظام المدفوعات العالمية (Swift).
خلال مفاوضات اللحظات الأخيرة تراجعت نسبة التفاؤل بالرغم من بلوغ المفاوضات مراحل حاسمة، فقد كشف الاتحاد الأوروبي الذي يتولى تنسيق المباحثات الهادفة لإحياء الاتفاق النووي الإيراني الجمعة عن الحاجة إلى "توقف" مفاوضات فيينا.
يساعد توقيع هذا الاتفاق إيران بالوصول إلى نحو 100 مليار دولار من الأموال المجمدة في البنوك الغربية نتيجة العقوبات، وعودة الشركات الآسيوية والأوروبية إلى الاستثمار في السوق الأوروبية، كما ستكون البنوك الإيرانية قادرة على إعادة الاتصال بالنظام المالي العالمي
في حين أكدت بروكسل وجود "عوامل خارجية" تدفع نحو "وقفة'' للمفاوضات، وذلك بسبب طلبات روسية مفاجئة تقوم على تقديم ضمانات أميركية مكتوبة بأن لا تؤثر العقوبات الغربية على موسكو على خلفية غزوها أوكرانيا، على تعاونها مع طهران في مجالات مختلفة.
في هذه المقالة سوف نناقش النتائج الاقتصادية لإحياء الاتفاق ومدى الرغبة لدى الأطراف المختلفة في إنجاحه وكيف غيّرت الحرب الأوكرانية أولويات الأطراف المنخرطة في المفاوضات.
1- الاقتصاد أولا
إن توقيع الاتفاق سيحقق لإيران فوائد اقتصادية عظيمة، إذ سيسمح لها ببيع نفطها في الأسواق العالمية، حيث يبلغ إنتاج إيران النفطي نحو 2.2 مليون برميل يوميا، حيث سيحقق ذلك عائدات مالية كبيرة في ظل أسعار نفط عند أعلى مستوياتها منذ 15 عاما تقريبا
بالإضافة إلى مبيعات الغاز الذي يشكل الهاجس الأوروبي في ظل تصاعد النزاع في أوكرانيا الذي تسبب برفع أسعار الغاز الطبيعي بنسبة 60% حتى الآن، فمن الممكن أن يشكل الغاز الإيراني بديلا محتملا للغاز الروسي، حيث تمتلك إيران ثاني أكبر احتياطيّ من الغاز عالميا.
كما يساعد توقيع هذا الاتفاق إيران في الوصول إلى نحو 100 مليار دولار من الأموال المجمدة في البنوك الغربية نتيجة العقوبات، وعودة الشركات الآسيوية والأوروبية إلى الاستثمار في السوق الأوروبية، كما ستكون البنوك الإيرانية قادرة على إعادة الاتصال بالنظام المالي العالمي، سيساعد كل هذا على نمو الناتج المحلي الإيراني وتخفيف الضغوط التضخمية الهائلة التي يعاني منها المواطن الإيراني وإعادة جزء من المشروعية لنظام ولاية الفقيه من خلال ترويجه لفكرة انتصار الاقتصاد المقاوم وحصوله على الأموال التي تعزز من أنشطته العابرة للحدود.
لكن في المقابل تشير تجربة 2016 إلى عدم تحقيق الاقتصاد الإيراني فوائدَ جوهرية من رفع العقوبات بسبب حالة عدم الثقة التي يشعر بها الاستثمار الأجنبي في السوق الإيرانية الناتجة عن نشاط إيران الإقليمي المزعزع للاستقرار والمشكلات الاقتصادية الهيكلية في البلاد، بما في ذلك سوء الإدارة والفساد والدور الواسع النطاق للحرس الثوري الإيراني وتغلغله في كل مفاصل الحياة الاقتصادية للبلاد.
كما يشتكي بعض المسؤولين الإيرانيين من عدم جدية واشنطن في رفع العقوبات وآلية الرفع التدريجي التي تخلق حالة من عدم الاستقرار في الاقتصاد الكلي الإيراني وسهولة إدماجه في الاقتصاد الدولي في حين أشار بعض الاقتصاديين إلى أن ذلك لم يكن إلا على الورق فقط.
كما تشكل استدامة الاتفاق نقطة محورية في إمكانية عودة الاستثمار الأجنبي إلى السوق الإيراني، حيث يجادل الجمهوريون في الكونغرس الأميركي أنهم لم يوافقوا على أي اتفاق ضعيف مع إيران وفي حال عدم أخذ هواجسهم بعين الاعتبار فمن الممكن لأي رئيس جمهوري يصل إلى البيت الأبيض أن ينسحب من الاتفاق مرة أخرى.
2- وضع سياسي واقتصادي مختلف
جاء استحقاق إحياء الاتفاق النووي مع إيران متزامنا مع بدء تعافي الاقتصاد العالمي من جائحة كورونا التي تسببت بارتفاع كبير في أسعار الطاقة الذي أدى بدوره إلى اختناقات في سلاسل التوريد العالمية وارتفاع التضخم في كل من أوروبا وأميركا، في وقت تقترب فيه انتخابات التجديد النصفي في الكونغرس الأميركي وانتخابات الرئاسة الفرنسية ووصول مستشار جديد إلى سدة رئاسة الحكومة الألمانية.
ويسعى الرئيس الأميركي إلى توقيع اتفاق نووي قبل الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي خوفا من وصول أغلبية جمهورية إلى مجلسَي الشيوخ والنواب قد تعرقل إمكانية الوصول إلى اتفاق من خلال إضافة شروط تتعلق ببرنامج إيران الصاروخي وأنشطتها المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط، كما يريد بايدن توقيع الاتفاق سريعا لإعادة النفط الإيراني إلى الأسواق بهدف تخفيض أسعار الطاقة وبالتالي خفض التضخم الذي سجّل أعلى مستوى له في أربعين عاما والذي أصبح يثقل كاهل المواطنين الأميركيين وقد يؤثر على قراراتهم الانتخابية ويتشارك معه الأوروبيون بنفس الهدف.
وجدَ الرئيس الأميركي نفسه مضطرا لهذا الخيار مع رفض السعودية ومجموعة أوبك بلس زيادة الإنتاج، حيث تجد السعودية أنها الفرصة السانحة لمعاقبة الإدارة الأميركية الحالية التي توعدت بجعل السعودية دولة منبوذة ورفعت جماعة الحوثي من قائمة المنظمات الإرهابية. الأمر الذي جعله يلجأ إلى الاحتياطي الاستراتيجي من خلال سحب مليون برميل يوميا لمدة ستة أشهر ودعوة حلفائه لاتخاذ نفس الخطوة.
3- حرب أوكرانيا وتعميق الجراح
اجتاحت الدبابات الروسية الحدود الأوكرانية معلنة انطلاق أكبر حرب في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، لتزيد من تعقيد وضع الاقتصاد العالمي وتهدد بتحويل حالة التضخم التي يعاني منها إلى حالة من الركود الاقتصادي من خلال أزمات سلاسل التوريد وارتفاع أسعار الطاقة الناتج عن العقوبات الاقتصادية المختلفة التي فرضها الغرب على الاقتصاد الروسي.
رغم كل هذه العقوبات والبروبغندا الإعلامية التي رافقتها فإنها حتى الآن لم تستهدف أكثر المفاصل الحيوية في الاقتصاد الروسي المتمثل في قطاع الطاقة والذي يشكل 40% من إجمالي الصادرات الروسية، حتى عندما أخرجت روسيا من نظام سويفت للمدفوعات العالمية تم استثناء البنوك التي تتم عن طريقها مدفوعات الطاقة، وفي ما يخص حظر الولايات المتحدة لاستيراد النفط الروسي فهو لا يشكل أكثر من 3 % من إنتاج روسيا النفطي، كما أن الولايات المتحدة لا تستورد الغاز من روسيا.
في حين أن أوروبا رفضت الانضمام إلى الحظر الأميركي بسبب اعتمادها بشكل كبير على الطاقة الروسية والتي تمثل أكبر من 40% من احتياجاتها الكلية.
أدرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن سلاحه الأهم هو سلاح الطاقة المتمثل في النفط والغاز والذي استخدمه كرأس حربة في استراتيجية "فرّق تسد" لشق صفوف الحلفاء الغربيين
ومن ناحية اقتصادية سجل الحساب الجاري فائضا قياسيا في شهر فبراير الحالي مقارنة بالعام الماضي على الرغم من الحرب بسبب الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة.
من هنا تبدلت الأدوار بين الأميركيين والأوروبيين الراغبين في توقيع اتفاق نووي تحت أي ظرف بهدف إيجاد بديل ولو كان جزئياً عن الطاقة الروسية مما يعطيهم قدرة مناورة أكبر في مواجهة الرئيس الروسي.
وبين الطرف الروسي غير الراغب في الاستعجال خوفا من أن يؤثر الاتفاق النووي المزمَع توقيعه على الميزة التنافسية للاقتصاد الروسي والذي يعدّ ثاني منتج للغاز وثالث منتج للنفط في العالم. لأن توقيع الاتفاق سيعيد مليوناً ومئتي ألف برميل للأسواق وبالتالي تخفيض الأسعار، حيث يباع برميل نفط الأورال الروسي في السوق السوداء بأقل بـ 20 % من السعر العالمي عند 75 دولارا للبرميل في حين تعدّ كلفة استخراجه مرتفعة، حيث تصل إلى 42 دولارا وبالتالي فإن انخفاض الأسعار ليس في مصلحة روسيا حاليا.
الخلاصة:
يدفع الأميركيون والأوروبيون باتجاه إبرام اتفاق نووي يحقق لهم أهدافا اقتصادية داخلية تتم ترجمتها داخليا في الانتخابات سواء الرئاسية أو البرلمانية المقبلة، وخارجيا في مواجهة فلاديمير بوتين الذي يسعى لامتلاك الفيتو على إمكانية توسّع حلف شمال الأطلسي وفرض استراتيجية عسكرة الطاقة في مواجهة استراتيجية الدولار المسلح التي تنتهجها الولايات المتحدة الأميركية، في حين يبدو الطرف الروسي غير مستعجل ويسعى لعرقلة الاتفاق حتى يحقق أهدافه الجيوسياسية من حربه في أوكرانيا، فهل سيستفيد الطرف الإيراني من هذا التناقض ويسعى لتعزيز مكاسبه والحصول على اتفاق أفضل من اتفاق عام 2016؟