تشير كل التصريحات والوقائع إلى تقدم كبير في المفاوضات مع إيران، حول برنامجها النووي، ويبدو أن التوقيع على هذا الاتفاق قد أصبح محسوماً، والأمر لم يعد إلا مسألة وقت، تحتاجه بعض الترتيبات حول بعض التفاصيل.
بالتأكيد ستكون إيران هي المستفيد الأكبر من هذا التوقيع، فهو بالإضافة إلى أنه سيضخ خلال الأسابيع الأولى بعد توقيعه ما يزيد على مئة مليار دولار في شرايين الدولة المحاصرة، التي هي بأمسّ الحاجة لها، هو أيضاً يقدم لها اعترافاً دولياً باعتبارها دولة إقليمية مهمة، ولاعباً لم يعد بالإمكان تجاهل دوره الإقليمي، ونفوذه، ومصالحه الحيوية.
البرنامج النووي الذي هو في جوهره وغايته، ليس إلا فزاعة أجادت إيران استعمالها، لتفرض حضورها الإقليمي
في التصريحات المعلنة والمتبادلة بين طرفي التفاوض، يتبين أن كل ما قدمته إيران، وتشدق ساسة غربيون باعتباره تنازلات مهمة، ليس له أهمية كبيرة، ولن يؤثّر في العمق على برنامج إيران ومشروعها العقائدي في المنطقة، سواء من ناحية إبقاء الحرس الثوري الإيراني على قائمة الإرهاب، أو من حيث منع إيران من امتلاك السلاح النووي، فالبرنامج النووي الذي هو في جوهره وغايته، ليس إلا فزاعة أجادت إيران استعمالها، لتفرض حضورها الإقليمي، ولتحمي مشروعها الأخطر الذي يظهر واضحاً في أذرعها الممتدة من الخليج العربي إلى المحيط الهندي وصولا إلى المتوسط، وهي بتوقيعها الاتفاق تكرس نقطتين استراتيجيتين في وجودها العسكري الإقليمي:
- لم يعد بالإمكان حتى بعد توقيع الاتفاق أن تخسر إيران دور "فزاعتها" النووية، وأصبحت قادرة في أي لحظة قادمة أن ترفعها مرة أخرى، لتبتز بها أطرافاً دولية وإقليمية، بوصفها دولة على عتبة امتلاكها السلاح النووي.
- كونها أصبحت بالفعل دولة على عتبة امتلاك السلاح النووي تقنياً، هذا يمنحها تساهلاً إلى حد ما، أو يخفف من مراقبة خطورة ما يخص برامجها العسكرية الأخرى والتي هي أشد خطورة وفعالية من السلاح النووي في الحروب العسكرية التقليدية، كمشروع تطوير ونشر الصواريخ بعيدة المدى، وتحسين قدراتها التدميرية ومدى دقتها.
سيفرض توقيع الاتفاق النووي معادلات جديدة في المنطقة. ومواجهة الاستباحة التي مارستها إيران لمناطق واسعة في المنطقة لن تكون كما توهمت أطراف كثيرة بقرب تحجيمها إلى حد كبير، والوهم الذي وصل عند البعض للمراهنة على أفول الحضور الإيراني، وتقليم أظافره كلها إن لم يكن قطع أصابعه يجب إعادة النظر فيه، حتى لو ازدادت حوادث الاستفزازات والاشتباكات المباشرة مع إيران، سواء عبر القصف الجوي المتكرر لإسرائيل لمواقع إيرانية في سوريا، أو عبر تبادل هجمات صاروخية بين مواقع أميركية وإيرانية في سوريا والعراق.
هل أدركت أطراف إقليمية حقيقة الدور الأميركي في المنطقة، ومدى أولوية مواجهة الهيمنة الإيرانية في جدول اهتماماته، فبدأت تغير من لهجتها مع إيران، لا بل بدأت تفكر بانتهاج سبيل مغاير. ها هي السعودية ترفع من مستوى التمثيل في الجولة السادسة القادمة من المفاوضات الأمنية مع إيران، وتعزّزها بشق سياسي. وها هي الكويت والبحرين ترسلا وفودها إلى طهران للتفاوض، وها هو الأردن يصرح على لسان رئيس الوزراء ووزير الخارجية أن إيران ليست عدواً، وها هي تركيا تسعى للتفاهم معها حول سوريا وقضايا أخرى، بدأت تباشيرها تظهر في انعطافة تركيا نحو نظام بشار الأسد.
بتغيير تركيا لموقفها من بشار الأسد، وبمحاولة دول كثيرة عربية إعادة صياغة علاقتها مع إيران، تبدو فرصة مشاركة النظام السوري لمؤتمر القمة العربية القادم في الجزائر أكثر حظاً، مع ما يعنيه هذا الحضور من تعويم له، وبدء استعادته لقدرته على التحرك إقليمياً ودولياً نحو فك الحصار عنه، وإعادة الاعتراف به.
أربعة شعوب عربية ستدفع ثمناً باهظاً، ثمنا لتوقيع هذا الاتفاق، وما سيترتب عليه في المرحلة القادمة:
- الشعب السوري بكامله سواء في الداخل أو في الخارج، وسواء في مناطق سيطرة النظام أو خارجها، فإعادة تأهيل بشار الأسد، تعني زج الشعب السوري لفترة قادمة في استنقاع مرّ أهم ملامحه دولة هشة وضعيفة وتابعة، وتخلف عام يشمل كل بنى هذه الدولة مع زيادة درجة القمع والإفقار، ولا يعتقد أحد على الجغرافيا السورية أنه بمنأى عن هذا المصير، فمن يلتحف الغطاء الأميركي واهم، ومن يلتحف الغطاء التركي واهم هو الآخر.
- الشعب الفلسطيني، فحلم الدولتين سيتم طوي صفحته، وقد تم إطلاق عدة تصريحات بهذا الخصوص من مسؤولين إسرائيليين وأميركيين، وعلى الأرض ثمة وقائع تذهب لتدعيم هذا التوجه، سواء بالبعد السياسي لتشغيل مطار رامون قرب إيلات، أو عبر استبعاد الحضور الفلسطيني في مختلف اللقاءات السياسية التي جرت، والاكتفاء بتمثيل الأردن أو مصر لهم.
- الشعب اللبناني هو خاسر كبير أيضاً، فالاتفاق النووي سيعيد لحزب الله قدرته الاقتصادية بعد فك الحصار عن إيران، وسيصبح قادراً في ظل الظروف الاقتصادية بالغة السوء التي يعيشها لبنان على شد عصب البيئة الحاضنة له، وعلى محاصرة الأطراف الأخرى، الأمر الذي يعني استمرار الصيغة القائمة من تحكم ثنائي الشيعة مع التيار الحر على مجمل الحياة السياسية في لبنان، والذي يعني أيضاً تأجيل حلم اللبنانيين بدولة وطنية غير تابعة تنقذ لبنان من تبعيته لإيران، وتنقذه من الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف به.
- الشعب اليمني سيكون من الخاسرين الكبار أيضاً، فاليمن يقترب من التقسيم، والتهديد الحوثي للسعودية سيبقى حاضرا وقابلا للتفجير عند الحاجة، فهذه المنطقة من العالم لن تهدأ أزماتها وحروبها، وما إن يستنزف صراع حتى نهايته حتى يسرعون لإشعال صراع جديد فيه.
وحدها "إسرائيل" ستظل حاضرة في معادلات كل الأطراف الدولية أميركا وأوروبا، وروسيا والصين، ووحدها -إسرائيل- التي أعلنت أن الاتفاق النووي لن يلزمها بتغيير استراتيجيتها حيال إيران
يبقى السؤال عن الحضور الأميركي والأوروبي ودورهما في كل هذه الترتيبات، سواء من الأطراف التي راهنت عليه، أو تلك التي ترفضه، لكن الأولويات التي فرضها "كورونا"، وفرضتها الحرب الأوكرانية الروسية، ومؤشرات التصعيد القادمة مع الصين بخصوص تايوان، وأزمة الطاقة التي تتفاقم مع اقتراب فصل الشتاء بالنسبة لأوروبا كلّها، تجبر أوروبا وأميركا على تخفيف اهتمامها بهذه المنطقة، وترغمها على إعادة ترتيب أولوياتها، وحدها "إسرائيل" ستظل حاضرة في معادلات كل الأطراف الدولية أميركا وأوروبا، وروسيا والصين، ووحدها -إسرائيل- التي أعلنت أن الاتفاق النووي لن يلزمها بتغيير استراتيجيتها حيال إيران.
ثمة حل وحيد، هو أشبه بحلم، وهو أقرب ما يكون إلى المستحيل، لكن ليس أمامنا كشعوب مستباحة ومنهوبة سواه، يتلخص بخروج هذه الشعوب من لعنة ماضيها، والتمعّن في تدبر حاضرها ومستقبلها، لكنها للأسف أمنية ناكثة من كل الجهات.