فريق التحقيق: علي عيد - مصطفى السيد
سبعة أعوام من الانتظار والابتزاز انتهت بورقة صغيرة هي عبارة عن بيان وفاة "عبد الله" بعد أن دفع والداه نحو 34 ألف دولار أميركي من جني عمريهما للاطمئنان على حالته في الوقت الذي كان ابنهما قد فارق الحياة.
واقع ما حدث مع "عبد الله السعود"، وصفه تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، التابعة للأمم المتحدة، الصادر بتاريخ 27 كانون الأول/ يناير 2016، والذي يقول إن "غالبية الوفيات قيد الاعتقال وقعت في مراكز اعتقال تديرها أجهزة المخابرات أو الجيش السوري".
الطبيب "محمد الترك" أنقذته ورقة أخرى للتأكد من أنه على قيد الحياة، وهي رسالة على قصاصة صغيرة كتبها بخط يده من داخل المعتقل، دفعت عائلته ثمنها ثلاثة آلاف دولار.
أما "راما العسس" التي اختطفت وسط دمشق عام 2012، فلم تعد حتى ساعة نشر هذا التحقيق، رغم تسليم والدها المبلغ المطلوب لإطلاق سراحها وهو 31 ألف دولار لمجموعة تقود سيارة تابعة لمخابرات النظام وترتدي زيّها وتحمل سلاحها.
يكشف هذا التحقيق عبر إفادات الشهود، تفاصيل دوّامة معقدة أبطالها أجهزة المخابرات ومجموعات مسلحة وسماسرة ومحامون وقضاة، وضحاياها مئات آلاف المعتقلين والمختفين قسريّا تعرضوا وأهاليهم للابتزاز، ودفعوا مبالغ طائلة مقابل معلومة أو إخلاء سبيل.
أرقام صادمة
تقدر قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان عدد الذين عايشوا تجربة الاعتقال أو الاختطاف بنحو 1.2 مليون شخص بحسب فضل عبد الغني مدير الشبكة.
ويشير مدير الشبكة إلى أن هذا الرقم هو حاصل إحصائيات تشمل مجمل حالات المعتقلين الحاليين والذي وصل عددهم إلى نحو 151 ألف معتقل ومختف قسرياً، حتى تاريخ 20 آذار/مارس 2021، إضافة إلى معتقلين سابقين يتجاوز عددهم نحو أربعة أضعاف عدد المعتقلين حالياً، علماً أن هناك عدداً كبيراً من الحالات لم تسجل، لأن أصحابها خرجوا خلال أشهر قليلة أو أسابيع أو عدة أيام.
وبحسب قاعدة بيانات الشبكة في تقريرها الصادر في 30 آب/أغسطس 2020، فإن 148,191 شخصاً كانوا لا يزالون قيد الاعتقال أو الإخفاء القسري على يد أطراف النزاع في سوريا منذ آذار/مارس 2011 وحتى نهاية 2020، بينهم 130,758 على يد النظام السوري (أي ما نسبته 88 في المئة)، منهم 3584 طفلاً، و7990 امرأة.
وتشير الإحصاءات الموثقة إلى أن "قرابة 100 ألف مواطن مختفون قسريا منذ آذار/مارس 2011، غالبيتهم لدى النظام السوري"، ويعرف هذا النوع من الاختفاء بأنه جريمة ضد الإنسانية بحسب الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، وتقع عندما يتم اختطاف أو سجن شخص من قبل دولة أو منظمة سياسية أو من قبل طرف ثالث بتفويض أو دعم أو موافقة من دولة أو منظمة سياسية، يتبعه رفض الاعتراف بمصير الشخص ومكان وجوده، بقصد وضع الضحية خارج نطاق حماية القانون.
4.2 مليار دولار دفعها المعتقلون
خلال عشر سنوات من الحرب الطاحنة في سوريا، هناك تجارة بالبشر، تشكّل جريمة كبرى وفق وصف الجهات القانونية، وتدرّ أرباحاً خيالية على المتورطين والمستثمرين فيها، حيث أصبح المال هدفاً للاعتقال أو الاختطاف بحسب ما يوثق هذا التحقيق عن منظمات حقوقية ومحامين وشهود من الضحايا وأهاليهم.
وتؤكد بعض الإحصاءات أن الاعتقال والإخفاء القسري اتخذ أساليب متعددة، وأصبح أداة إثراء وتربّح فضلاً عن كونه أداة تخويف وقمع وإلغاء، حيث تشير دراسة أجرتها رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا ونشرت في كانون الأول/ديسمبر 2020، إلى أن الحصول على المال من حالات الاعتقال والإخفاء أصبح تجارة رائجة بعد 2011، بل "تحوّل إلى رافد مهم لاقتصاد الحرب، شاركت فيه جهات مدنية وعسكرية وميليشيا مختلفة".
الدراسة التي شملت 508 أشخاص من ذوي المختفين قسراً، و709 مقابلات مع أشخاص ناجين من الاعتقال، خلصت إلى أن ربع حالات المختفين قسراً أبلغت عن ابتزاز مادي مقابل الحصول على معلومات حول المختفي، وأن مجموع المبالغ التي دفعوها تقدر بنحو 461,500 دولار، في حين أشارت 7 في المئة إضافية من الحالات إلى أن أصحابها دفعوا أموالاً مقابل وعد بزيارة أحد المعتقلين وصل مجموعها إلى 95,250 دولاراً.
وفي حالة الناجين الذين خرجوا من المعتقل، تبين أن 44 في المئة منهم دفعوا أموالاً عن طريق ذويهم لتوفير معلومات عنهم، وبلغ مجموع ما دفعوه نحو 1.2 مليون دولار، وأشار 28 في المئة من الأشخاص أنهم دفعوا أموالاً مقابل وعود بإخلاء سبيلهم بلغ مجموعها 1,119,400 دولار.
وتشير الدراسة إلى أن حجم المبالغ المدفوعة في عمليات الابتزاز في سوريا في الفترة بين آذار/مارس 2011 وآب/أغسطس 2020، تقدر بنحو 869 مليون دولار، استناداً إلى رقم افتراضي لأعداد المختفين والمعتقلين يزيد على 250 ألف شخص خلال تلك الفترة والنسب التي تم الوصول إليها من حيث الأشخاص الذين قاموا بدفع المال سواء من الناجين أو المعتقلين والمختفين قسريا وأهاليهم، مع الإشارة إلى أن الرقم متحفّظ، بحسب اعتراف الدراسة نفسها.
إلا أن الشبكة السورية لحقوق الإنسان التي استندت إليها دراسة رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا اعتبرت على لسان مديرها فضل عبد الغني أن عدد المختفين قسريا والمعتقلين يصل إلى 1.2 مليون شخص.
ويرجح مدير الشبكة أن نحو ثلث الذين خاضوا تجربة الاعتقال ربما تعرضوا لحالات ابتزاز ودفعوا المال مقابل الحصول على معلومة أو نقل المعتقل أو إحالته إلى المحاكم أو إخلاء السبيل، في حين بلغت النسبة النصف بحسب دراسة "رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا".
واستناداً إلى تقديرات الجهتين السابقتين، فإن حجم المبالغ التي تم دفعها اعتمادا على المجموع الكلي البالغ 1.2 مليون معتقل، تصل إلى 4.17 مليارات دولار دفعها المعتقلون الناجون أو المختفون وأهاليهم، مقابل الحصول على معلومة أو نقل إلى المحاكم أو إخلاء السبيل.
وللتثبت بشكل أكبر من منهجية الابتزاز، وصحة وجود مثل تلك الأرقام، لجأ التحقيق إلى تحليل عينة من 10 حالات لناجين وأهالي مختفين قسريا، التقى معهم بشكل مباشر (وجهاً لوجه أو عبر الشبكة)، وأظهر تحليل بيانات العينة أن مجموع ما تم دفعه وصل إلى 157 ألف دولار وبمعدل 15,700 دولار للحالة الواحدة.
ونظراً لأن عينة التحقيق غرضية (Purposive Sample)، تم اختيارها بشكل غير عشوائي لخدمة فرضية التحقيق، فقد تم الاعتماد في تحليل الأرقام المالية على تقديرات دراسة رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا بسبب اتساع العينة وشموليتها، وعلى الشبكة السورية لحقوق الإنسان من حيث تقدير عدد المعتقلين والمختفين نظرا للمواكبة والإمكانات والثقة العالية التي تتمتع بها الشبكة كمعرف لدى المنظمات الدولية ومؤسسات البحث والدراسات.
أين يصب المال؟
مدير مجموعة ملفات "قيصر" المحامي إبراهيم القاسم، أكد أن الجهات المسؤولة عن الاعتقال والتابعة للنظام السوري انقسمت أهدافها إلى قسمين، الأول إخماد الحراك، والثاني استنزاف أهالي المعتقلين وهو أمرٌ هامشي تحول إلى أساسي مع اكتشاف حجم الأموال التي يمكن تحصيلها.
ويؤكد "القاسم" أن هناك شبكات من المستفيدين تتكون من ضباط الأجهزة الأمنية أو المجموعات المسلحة الرديفة لقوات النظام، كما تحيط بمجموعات الخطف، مجموعات أخرى مستفيدة تتكون من سماسرة ومحامين وقضاة مهمتهم إما الوساطة للحصول على المعلومة، مثل مكان الاعتقال، أو التدخل في مرحلة لاحقة لتخفيف الحكم أو إخلاء السبيل أو حتى إيصال رسالة أو تأمين زيارة للمعتقل.
"القاسم" وهو محام عمل في الدفاع عن المعتقلين والمعتقلات داخل سوريا، ومرّ بتجربة الاعتقال سابقاً، واطلع على آلاف الملفات الخاصة بالمعتقلين والمختفين قسرياً بحكم المهنة خلال عمله في دمشق، قال إن عمليات الابتزاز والمساومة كانت تتم على مراحل، ابتداء من التوقيف أو الإيداع في غرف الاعتقال أو مراكز الشرطة، وإن كثيراً من الحالات تطورت وصولاً إلى المحاكم والمعتقلات والسجون مثل سجن عدرا أو سجون الفرقة الرابعة والمخابرات الجوية وصيدنايا وغيرها من أماكن احتجاز المدنيين.
ويتابع أن كبار الضباط متورطون في عمليات الابتزاز، إضافة إلى المحاكم العسكرية ومحكمة الإرهاب والمحكمة الميدانية.
ويضيف أن المحاكم المدنية كانت مكاناً للسمسرة والتفاوض مع أهالي المعتقلين لتحصيل الأموال منهم مقابل بوعود بإخلاء سبيلهم أو حتى نقلهم إلى سجون أخرى.
وأشار أن عدداً من المحامين في المحافظات الأخرى انتقلوا إلى دمشق بهدف الانخراط في عمليات السمسرة المربحة على حساب المعتقلين، كما أن عدداً من القضاة كانوا يتزاحمون للانتقال إلى محكمة الإرهاب حيث تتم محاكمة المعتقلين، وذلك بهدف ابتزاز ذويهم لكسب المال.
أين يذهب المعتقلون؟
يشير تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى مسؤولية النظام السوري وأجهزته عن 88 في المئة من حالات المختفين قسريا والمعتقلين حتى لحظة نشر التقرير، مقابل 12% من الحالات تتحمل مسؤوليتها أطراف أخرى.
وتظهر دراسة "رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا" أن نحو 95% من حالات الاختفاء القسري تمت في مناطق خاضعة لسيطرة النظام السوري وحلفائه، والباقي يتوزع بين باقي القوى المسلحة، وأظهرت أن ما يزيد على 93% من الحالات تمت من قبل قوات تابعة للنظام أو حلفائه.
التحقيق بحث عن جهات الإخفاء والاعتقال التابعة للنظام السوري بالتدقيق مع محامين وشهود من الضحايا وذويهم، وتبين بالمقاطعة مع دراسات بينها تلك التي أجراها مركز عمران للدراسات الاستراتيجية ونشرها بتاريخ 14 تموز 2016، أن هناك جهات أمنية رئيسية تستخدم بمنزلة "وسيلة للقمع والتعذيب وتقييد الحريات"، كما تم استخدام وحدات الجيش في تلك المهمة.
أخطبوط الموت
ويتبين أن هناك أربع إدارات أمنية رئيسية وهي شعبة المخابرات العسكرية وتمتلك 12 فرعاً في دمشق، إضافة إلى فروع في المحافظات، وإدارة المخابرات الجوية ولديها ستة فروع مركزية وستة أخرى في المحافظات، وإدارة المخابرات العامة (أمن الدولة) ولديها تسعة فروع مركزية إضافة إلى فروع في المحافظات، وإدارة الأمن السياسي ولديها 12 فرعاً إضافة إلى فروع في المحافظات.
كما تؤكد شهادات المستجيبين في هذا التحقيق، وكذلك دراسات استند إليها التحقيق في جانب من معالجاته، انخراط جيش النظام وفرقه ووحداته في عمليات الاعتقال والإخفاء والتعذيب، وأكثر وحدات الجيش تورطاً بحسب الدراسات والشهود هي قوات النمر (وهي وحدة عسكرية تتبع لقوى الدفاع الجوي ويقودها العميد سهيل الحسن)، والفرقة الرابعة (تعتبر القوة الضاربة للنظام ويقودها ماهر الأسد) والحرس الجمهوري.
ويتحكم جهاز الأمن الوطني المحدث بموجب المرسوم الرئاسي رقم 36 لعام 2012 بالقرار الأمني لمختلف الأجهزة السابقة، ويمتلك قاعدة بيانات شاملة يستخدمها في رسم السياسات الأمنية.
وبحسب المصادر والشهود أنفسهم تتحمل جهات أخرى تعمل في فلك النظام أو تسانده مسؤولية في الاختفاء القسري والاعتقال، بينها ميليشيات مسلحة رديفة مثل الدفاع الوطني، أو حزبية مثل "كتائب البعث" التابعة لحزب البعث، وميليشيا تابعة للحزب القومي السوري، وكذلك الشبيحة وعناصر الميليشيات الأجنبية القادمة من عدة دول مثل العراق ولبنان، وكذلك الحرس الثوري الإيراني، وفصائل محلية مدعومة من إيران، وقد أشار إلى هذه الميليشيات تقرير مفصل نشره مركز حرمون على موقعه بتاريخ 29 كانون الأول/ديسمبر 2020.
وتظهر المصادر السابقة نفسها أن قوى مناهضة للنظام مارست عمليات الاختطاف والإخفاء، "قوات سوريا الديمقراطية" والمعارضة المسلحة/ "الجيش الوطني"، والجماعات المسلحة المتطرفة مثل "داعش" و"هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة)، إضافة لمجموعات منفلتة نفذت عمليات الخطف والإخفاء بهدف الابتزاز والمساومة كما يحصل في مناطق الجنوب السوري.
وتشير قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وفق التقرير الذي نشرته في 30 آب/أغسطس 2020، إلى جهات من غير النظام مسؤولة عن نحو 12 في المئة من حالات الاختفاء القسري والاعتقال في سوريا، وأن تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، مسؤول عن 8648 من حالات الإخفاء القسري والاعتقال، تليه "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) بـ 3398 حالة، ثم المعارضة المسلحة و"الجيش الوطني" بـ 3262 حالة، ثم "هيئة تحرير الشام" بـ 2125 حالة.
الخطف من وجه آخر
مقابل الابتزاز القائم على الاعتقال والتغييب، ثمة نوع آخر قائم على الخطف، وغالبا ما تمارسه مجموعات وعصابات بعضها محمي من قبل أجهزة المخابرات. وانتشرت خلال الأعوام القليلة الماضية ظاهرة الخطف في المنطقة الجنوبية بين محافظتي درعا والسويداء، حيث وثق مكتب توثيق الشهداء في درعا عشرات الحالات خلال عام 2020، وغالبا ما كان الخطف يتم بهدف الحصول على الفدية التي وصلت في إحدى الحالات إلى حصول إحدى عصابات الخطف على مبلغ 200 مليون ليرة (نحو 100 ألف دولار) مقابل إطلاق المخطوف "محمد موسى السراحين" في 18 سبتمبر 2020.
ووثق موقع "السويداء 24"، خطف واعتقال 238 شخصاً في السويداء عام 2020، بينهم 189 مدنياً، و49 من عناصر جيش النظام والأجهزة الأمنية.
وأشار التقرير إلى "مسؤولية عصابات الخطف في محافظة السويداء، عن اختطاف 65 مدنياً، طمعاً بالفدية المالية"، مشيراً إلى الإفراج عن القسم الأكبر منهم، مقابل "دفع ذويهم مبالغاً مالية للعصابات"، في حين تم إطلاق سراح قسم قليل من المخطوفين بعمليات أمنية، أو بسبب ضغط الفصائل المسلحة على العصابات.
ويحمل التقرير عصابات الخطف في محافظة درعا مسؤولية "خطف 16 مدنياً من السويداء، طمعاً بالفدية المالية"، في حين كانت جهات مجهولة الهوية مسؤولة عن خطف 13 مدنياً فقدوا في ظروف غامضة ومختلفة داخل محافظتي درعا والسويداء.
وتتحمل الجهات الأمنية والمخابرات التابعة للدولة السورية، مسؤولية اختطاف واعتقال 30 مدنياً "خارج إطار القانون".
وفي الحالة الخاصة بخطف عناصر الجيش السوري والأجهزة الأمنية، يشير التقرير إلى أن الدوافع تراوحت بين "عمليات مقايضة على معتقلين وموقوفين"، وأن "قلّة منهم أفرج عنهم بعد دفع ذويهم مبالغ مالية كفدية".
نزيف مستمر
حاول الفريق تتبع إحدى الحالات، وخلال البحث تم الوصول إلى "س.ب"، وهي زوجة أحد المختفين يتعذر ذكر اسمها الصريح لأسباب تتعلق بأمنها وأمن زوجها، منذ عام 2013.
بالتعاون مع الزوجة قمنا بالاتصال بأحد الوسطاء في دمشق، وبعد أخذ ورد وافق على تزويدنا بمعلومة حول سجلّ المختفي عن طريق ضابط يعمل في مكتب الأمن الوطني.
الضابط الذي طلب المحامي والضحية إغفال اسمه لأسباب أمنية طلب مبلغ 400 ألف ليرة مقابل خدمة واحدة هي إجراء بحث عبر محرك مركزي لديه لنعرف إن كان الاسم موجودا، وأرجأ التفاوض حول بقية المبالغ لما بعد تحديد المصير.
حاولنا التواصل مع الضابط بصفة أشخاص يطلبون المساعدة وكان الجواب بالرفض، خصوصا وأن جهة الاتصال تقيم خارج سوريا، وهو أمر غير مصرح له دون إذن، وهو قانون غير معلن تطبقه الأجهزة الأمنية وتعاقب على مخالفته.
ويزيد من الثقة في استمرار الاعتقالات لأغراض متعدد من بينها الابتزاز ورقة بحثية نشرها برنامج مسارات الشرق الأوسط بتاريخ 31 تمّوز 2019، وتشير إلى أن أجهزة النظام، وخلال سنة واحدة بين نيسان/أبريل 2018 ونيسان/أبريل 2019 نفذت 695 عملية اعتقال تعسفي في اثنتين من بلدات الغوطة الشرقية وهما زملكا وكفربطنا، وهي منطقة استعاد النظام السيطرة عليها من المعارضة المسلحة في الربع الأول من عام 2018.
وينسحب الوضع في ريف دمشق على مختلف المناطق، ففي نيسان/أبريل الماضي تم توثيق 147 حالة اعتقال تعسفي على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا، كانت النسبة الكبرى منها على يد قوات النظام السوري في محافظة درعا تلتها حلب، بحسب تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
سعى فريق التحقيق للحصول على رد من وزارات الدفاع والداخلية والعدل ونقابة المحامين في سوريا، عبر إرسال قائمة أسئلة واستفسارات بتاريخ 21 أيار/مايو 2021 على البريد الإلكتروني الرسمي إلى الجهات الأربع ليتاح لها حق الرد عن جميع ما سبق، إلا أن الفريق لم يتلقّ أية إجابات.
من يحاسب المتورطين؟
يقول المحامي طارق حوكان، مدير المكتب القانوني في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، والذي يعمل على ملفات الانتهاكات بحق المعتقلين، إن قانون العقوبات السوري لا يتضمن مصطلحي الاعتقال التعسفي أو الاختفاء القسري، واقتصر التجريم في هذا القانون على الأفعال التي يمكن أن ترتكب بشكل تعسفي في إطار الاحتجاز أو الاختطاف (المرسوم 21 لعام 2012 المتعلق بجرائم الخطف)، وتلك التي يرتكبها الأشخاص المكلفون بمهمة رسمية، والتي لا تؤسس إلا مسؤوليتهم الشخصية دون أن تطول هذه المسؤولية الدولة وأجهزتها، وهذا ما ورد في المادة 357 من قانون العقوبات الذي ينص على أن "كل موظف أوقف أو حبس شخصا في غير الحالات التي ينص عليها القانون يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة"، إلا أنه حتى هذه النصوص تظل معطلة بمواجهة عناصر وضباط الأجهزة الأمنية بسبب الحصانة الممنوحة لهم عن الجرائم التي يرتكبونها بموجب المرسوم 14 لعام 1969، الخاص بجهاز "أمن الدولة".
وتتفق اللجنة السورية لحقوق الإنسان مع هذا الرأي معتبرة أن هذا القانون ينتهك حق المواطن السوري في اللجوء إلى القضاء، للادعاء على أي رجل أمن ارتكب جريمة بحقه، إذا كانت هذه الجريمة قد ارتكبت بسبب ممارسة رجل الأمن لوظيفته، أو في أثناء ممارسته لها.
يتابع "حوكان": إذا كان القانون السوري لم يلحظ جرائم الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري فهو بالنتيجة لم يلحظ الابتزاز الذي يترافق معهما، كما أن الأفعال التي تشكل جريمة الابتزاز كما نصت عليها المادة /636/ من قانون العقوبات مغايرة تماما لجريمة الابتزاز الذي يترافق مع جريمتي الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري كما هو الحال في سوريا بعد 2011.
وليس ثمة ما يجرّم الابتزاز في القانون الدولي الإنساني أو النصوص الإنسانية)، ومنها الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري، بحسب "حوكان".
ويضيف، أن الأمر يختلف بين مرتكبي الابتزاز الذين هم جزء من المنظومة الأمنية كالضباط والعناصر الذين قاموا بالفعل، وبين السماسرة والوسطاء الذين نرى أنه يمكن اعتبارهم متواطئين فالفئة الأولى تطولهم النصوص التي تجرم هذين الجرمين (المادة 7/1/ والمادة 8/2) من ميثاق روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وتشمل جريمتي الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري وجريمة الابتزاز، أما الفئة الثانية فتطولهم النصوص ولكن باعتبارهم متواطئين في الجريمة وليس لقيامهم بالابتزاز.
عينة من الحالات لناجين وأهال مختفين قسريا التقى بهم فريق التحقيق
35 ألف دولار والنهاية بيان وفاة
في 20 شباط/فبراير 2012 كان "عبد الله السعود" (23 عاما)، على موعد مع اختيار شريكة الحياة في اليوم الثاني، وكانت الأم "أحلام" تنتظره في حلب قادماً من "معرة النعمان" بريف إدلب التي تهجّرت منها مع قسم من العائلة في ظروف الحرب، إلا أن الشاب اختفى ليتبين أنه معتقل في فرع المخابرات العسكرية بحلب.
تروي الأم "أحلام" والأب الطبيب "مازن"، تفاصيل عملية الابتزاز التي بدأت منتصف تموز 2014 بإرسال مبلغ خمسة آلاف دولار إلى شخص ادّعى أنه على صلة باللواء محمود عمار الملقب (أبو حيدرة) في القصر الجمهوري، ثم مبلغ 3,200 دولار، وفي المرة الثالثة 2,450 دولار جرى تحويلها إلى دمشق عبر شركة الهرم للحوالات بتاريخ 2 آب/أغسطس 2014، ليبلغ إجمالي المبلغ نحو 10,650 دولارا مقابل الوعد بإخلاء سبيل "عبد الله"، إلا أن شيئا لم يحصل وكانت العملية مجرد ابتزاز واحتيال.
لم تنته القصة، فبعد فترة دفعت الأسرة مقابل وعد بإطلاق ابنها مبلغ 23,600 دولار لوسيط ادعى أنه من "الثوار" في منطقة "حماة"، وأنه على علاقة بمسؤولين في الجهات الأمنية التابعة للنظام، إلا أن المعلومات التي يسردها الأبوان تقول إن الوسيط قد قتل، وذهب مع المال مرّة أخرى من دون نتيجة.
بعدها وفي نهايات 2018 طلبت إحدى المجموعات مبلغ 75 ألف دولار للتوسط لإطلاق الابن إلا أن شكّ الوالدة دفعها للطلب من زوجها عدم الدفع، ليتبعها ابتزاز آخر مشابه مطلع نيسان/أبريل 2019.
في نيسان/أبريل 2019 وصلت الوالدين الوثيقة الفاصلة، وكانت المعلومة مدوّنة على مجرد ورقة مصدرها دائرة السجل المدني في حماة، إنه بيان وفاة "عبد الله"، على أن واقعة وفاته حصلت في دمشق بتاريخ 15 نيسان/أبريل 2014، من دون ذكر السبب، في حين يقول الوالد إن عبد الله تمت تصفيته في المعتقل بعد نحو عامين من اعتقاله، مثل آلاف الضحايا الذين وثقهم "قيصر" بعد أن قضوا تحت التعذيب في معتقلات النظام السوري وصدمت صورهم العالم.
31 ألف دولار مقابل "راما العسس" التي لم تعد
في 27 أب/أغسطس 2012 وثقت منظمات حقوق الإنسان حادث اعتقال الناشطة السياسية راما العسس (27 عاما) أمام بيتها في حي البرامكة بدمشق بعد ملاحقتها من قبل أجهزة الأمن، وتقول شقيقتها "سارية" إن مجموعة اتصلت تطلب مبلغ مليوني ليرة (نحو 31 ألف دولار وفق سعر الصرف وقتئذ) مقابل إطلاق سراحها، وبعد تأمين المبلغ قام والدها بتسليمه لمجموعة تقود سيارة بلوحات حكومية تتبع لأجهزة الأمن، إلا أن المجموعة اختفت، كما أن راما لم تعد من وقتئذ، ولا توجد لها سجلّات في أي جهة أمنية.
شراء الحرية بالممتلكات العينية
إحدى شهود التحقيق "م.أ" تحدثت عن رحلة العائلة للبحث عن أخويها، وتقول إنهم تعرضوا لخداع متكرر، حيث طلبت إحدى المحاميات وهي زوجة ضابط في أجهزة المخابرات مبلغ 100 ألف ليرة (كانت تعادل 200 دولار عام 2016)، لكنها لم تزود العائلة بأي معلومة صحيحة رغم حصولها على المال، وهناك شخص آخر طلب مبلغ 375 ألف ليرة (نحو 750 دولار) مقابل معلومة حول أخويها المعتقلين، وبالفعل زودهم بالمعلومة حيث كان الأخ معتقلا لدى المخابرات الجوية ثم جرى نقله إلى مستشفى تشرين العسكري من جراء المرض وصولا إلى فرع مخابرات آخر رفض تحديده.
وتضيف "م.أ" أن أحد إخوتها كان معتقلا في سجن صيدنايا، وكان المبلغ المطلوب لإطلاق سراحه هو 23 مليون ليرة (تعادل 46 ألف دولار)، وعندما أخبرنا الوسطاء بأننا لا نملك المال عرضوا إمكانية شراء إطلاق سراحه بأي شي تملكه العائلة توازي قيمته المبلغ المطلوب.
الرسالة الأعلى كلفة في العالم
عام 2012 تمكن أهل محمد الترك من معرفة مكان اعتقاله عبر شخص آخر كان يقبع في المعتقل نفسه بعد إطلاق سراحه، والمكان هو السرية 215 التابعة للأمن العسكري، وتعرف باسم "سرية المداهمة".
لكي يتأكد الأهل من وجوده مقابل دفع المال طلبوا من الوسطاء رسالة بخط يد محمد، وكانت الرسالة عبارة عن قصاصة صغيرة فيها بضع كلمات، ودفع الأهل مقابل ذلك مبلغ 3 آلاف دولار.
يقول محمد وهو طبيب أسنان: كتبت هذه الرسالة في السرية رقم 215 بعد مضي ما يقارب الشهرين من اعتقالي.
وبعد جلسة تعذيب بالصعق الكهربائي، أخذني المساعد (صف ضابط) المسؤول عن زنزانتي إلى غرفته ليسألني: من لك من أهلك في الخارج، أجبته بصوت مرتجف: ليس لي أحدٌ منهم في سوريا، كلهم خارج البلد.
قال لي بنبرة مختلفة عمّا تعودت: لكنهم استطاعوا أن يعرفوا أنك في هذا المعتقل ويريدون دليلاً دامغاً ليتأكدوا من أنك حيٌّ وفي هذا المعتقل تحديداً، فطلبوا مني أن تكتب لهم رسالة تطمئنهم فيها عنك، ومؤشراً يؤكد بأنك أنت من كتبتها، وقال لي ستكتب لهم الرسالة هنا وبسرعة، وإيّاك وأن تذكر بأن هناك ما يزعجك أو أنك تتعرض للضرب والإهانة ونقص الغذاء.
كتب محمد رسالته مستخدما استعارات لها دلالات على أحداث ليخبر الأهل بأنه يمر بأصعب الظروف، ورسم في نهاية الرسالة بضعة أحرف "شيفرة" ابتدعها مع شقيقته سابقا، يقول فيها "تعبان رح موت".
ويتابع، تسلم أهلي الرسالة بعد دفع المبلغ، وبدؤوا في العمل على إخراجي، حيث تم نقلي إلى سجن دمشق المركزي وبعدها بثلاثة أشهر خرجت منه.
نص الرسالة:
"بسم الله الرحمن الرحيم ، أهلي المخلصين أنا والله، بصحة جيدة ولا ينقصني سوى ان أكون بقربكم وصاير بكره السمبوسك كتير وما عم آكلو مبسوط متل وقت قضيت رمضان بليبيا وكنتو أنتو بسوريا وأنشاء الله عن قريب رح أكون معكون وإذا أتأخرت رح تدعولي كتير لأصير عندكون، أمي الغالية/ أبي الغالي
أخوتي المخلصين وسيوس، (رموز عبارة عن شيفرة ابتدعها محمد الترك مع شقيقته سابقا، يقول فيها "تعبان رح موت")
*******************
والله يا أمي كتير مشتقلك، انتي واخوتي وحابب كون معكون بأقرب وقت، وكل ما أمرض اتخيل أبي عم يعطيني الدوا كالعادة لا يضل بالكون علي أنا متل ما بتعرفوني قد حالي والحمد لله من رضاكون علي الله ماعم يخجلني وعم كون مرتاح
كنت عرفان رح تضلو وراي حتى توصلولي وأنا خجلان منكون كتير. سلامي الحار
(رموز عبارة عن شيفرة ابتدعها محمد الترك مع شقيقته سابقا، يقول فيها "تعبان رح موت")
دعواتكم ".