تحدد المقالة ستة مخاطر رئيسية لعودة ترمب إلى الرئاسة، وتلخص تأثيراته المحتملة داخليًا وخارجيًا كالتالي:
1. الخطر الاقتصادي: السياسات التضخمية وفرض الضرائب على الواردات قد تؤدي إلى صراع مع الاحتياطي الفيدرالي وتهديدات بحرب تجارية تؤثر سلبًا على الاقتصاد الأمريكي.
2. الخطر على المؤسسات: قد يضعف ترمب القيود المؤسسية، خاصة مع تقليص دور المحكمة العليا في الرقابة على سلطاته التنفيذية، ما يزيد من نفوذه.
3. الخطر على الحلفاء: احتمال تدهور الثقة بالحلفاء، خاصة الناتو، مما قد يدفع الآسيويين إلى إعادة النظر في الضمانات الأمريكية لمواجهة تهديدات مثل الصين.
4. الخطر على السلم العالمي: تصاعد الأزمات، خاصة في أوكرانيا والشرق الأوسط، قد يزيد من احتمالات الصراع الأمريكي مع قوى كبرى كالصين.
5. الخطر على سيادة القانون: التهديدات للديمقراطية تتزايد مع استغلال ترمب لوزارة العدل ضد خصومه، ومحاولاته المحتملة للتأثير على الانتخابات.
6. الخطر الاجتماعي: سياسة ترمب قد تعمق الانقسامات الاجتماعية، مع مقترحات كإطلاق النار على المتظاهرين، مما يعزز التوترات الداخلية.
بنهاية هذا اليوم كان ملايين الأميركيين قد صوتوا لدونالد ترمب، بعضهم خوفاً من الضيم لأنهم ظنوا بأن كامالا هاريس ما هي إلا ماركسية متطرفة ستدمر بلدهم لا محالة، وبعضهم دفعه إحساسه العميق بالفخر ببلده لانتخاب هذا الرجل، بما أن ترمب أوحى إليهم بأنه في حال وصوله إلى البيت الأبيض فإن أميركا ستعود لعظمتها من جديد، في حين اختار آخرون التصويت بكل هدوء لترمب بوصفه يمثل مغامرة محسوبة.
وهذه الفئة من الناخبين لا ترى في ترمب شخصية ترغب بالتعامل معها على المستوى التجاري ولا تجد فيه مثالاً يحتذى بالنسبة لأطفالها، بل لعل هؤلاء يعتقدون بأن خيره غلب على شره عندما كان رئيساً للبلاد، وقد يعتقد هؤلاء بأنه جرى تضخيم الدعوى التي رفعت ضده والمبالغة فيها، والفكرة التي تحتل قلب هذه الحسابات ترى بأنه يمكن ضبط أسوأ مافي ترمب والسيطرة عليه على يد المحيطين به من العاملين لديه، ومن خلال البيروقراطية والكونغرس والمحاكم.
تغير جلي في الظروف
بيد أن هذه الحجج قائمة على مبالغة كبيرة، إذ لعل أميركا ستجتاز أربع سنوات من حكم ترمب كما فعلت خلال فترات رئاسية لرجال كانت لديهم عيوب جلية وصلوا إلى سدة الحكم من كلا الحزبين. بل لعل هذه البلد ستزدهر، غير أن الناخبين الذين يزعمون بأنهم يتسمون بالعناد يتغاضون عن المخاطر الجانبية التي ستترتب على رئاسة ترمب. إذ عندما يصبح ترمب قائداً للعالم الحر، بوسع أميركا عندئذ أن تغامر بالاقتصاد، وحكم القانون، والسلام الدولي. ولكن لا يسع المرء هنا أن يعدد احتمالات حدوث أخطاء شنيعة، لذلك فإن الناخبين الذين يقللون من أهمية هذا الأمر إلى أبعد الحدود يخدعون أنفسهم بلاريب.
قد يرفض بعض الناس ذلك لأنه بنظرهم مجرد تهويل، وهنا لابد من القول بأن أسوأ مخاوفنا حيال أول فترة رئاسية لترمب لم تتحقق، وذلك لأنه عمل في الداخل على تخفيض الضرائب وحرر الاقتصاد من القيود، فتطور الاقتصاد ونما بسرعة أكبر من اقتصاد الدول الغنية الأخرى. كما أن إدارة ترمب تستحق كل الثناء على تمويلها للقاحات كوفيد-19 حتى عندما رفض ترمب تشجيع الأميركيين على الخضوع للقاح. أما في الخارج، فقد قام ترمب باستعراض قوة أميركا، وحول القرار بالإجماع نحو تبني موقف المواجهة مع الصين. وأسهم في التوسط لعقد الاتفاقات الإبراهيمية، التي أسبغت صفة رسمية على العلاقات بين إسرائيل وبعض دول الجوار، وهذا السلام نجا حتى الآن من الوقوع في براثن حرب إقليمية. هذا ولقد حث ترمب حلفاء أميركا على زيادة ما ينفقونه على الدفاع، بل حتى عندما تصرف ترمب بطريقة مستهجنة عبر التحريض على الهجوم على مبنى الكابيتول لمنع انتقال السلطة في السادس من كانون الثاني عام 2021، بقيت المؤسسات الأميركية صامدة.
بيد أن التهديدات باتت أكبر اليوم، ويعود سبب ذلك إلى أن سياسات ترمب أصبحت أسوأ، وصار العالم أشد خطورة، واستبدل الأشخاص الرزينون الذين يتمتعون بحس المسؤولية والذين قمعوا أسوأ غرائز ترمب خلال فترته الرئاسية الأولى، بمؤمنين صادقين ومتملقين ومجازفين.
لنجعل أميركا "فظيعة" من جديد
بدأت الدعوى التي رفعت ضد ترمب بسياساته، إذ في عام 2016، كانت منصة الجمهوريين يتناهبها حزب ميت رومني وحزب ترمب، بيد أن النسخة الموجودة اليوم وصلت إلى مرحلة متطرفة، فقد صار ترمب يؤيد فكرة فرض تعرفة جمركية تصل نسبتها إلى 20% على جميع الواردات، كما تحدث عن فرض رسوم تتجاوز نسبة 200% أو حتى 500% على السيارات القادمة من المكسيك. واقترح أيضاً ترحيل الملايين من المهاجرين غير النظاميين، على الرغم من أن معظمهم لديهم وظائف وأعمال في أميركا إلى جانب أطفال حاملين لجنسيتها. ولعل هذا الرجل سيمدد العمل بتخفيض الضرائب على الرغم من أن العجز في الميزانية وصل إلى مستوى لم تصل إليه أميركا إلا خلال فترات الحرب أو الركود، ما يشير إلى وجود حالة عدم اكتراث تتسم بالبهجة والسرور تجاه الإدارة المالية السليمة.
وهذه السياسات لابد أن تُضخم، وهذا ما سيؤدي إلى حدوث تضارب مع الاحتياطي الفيدرالي، كما سيهدد ذلك بإشعال فتيل حرب تجارية ستدفع بأميركا نحو الفقر في نهاية المطاف. كما أن اجتماع التضخم مع حالات العجز الخارجة عن السيطرة وتفسخ مؤسسات الدولة لابد أن يصل بأميركا إلى اليوم الذي يشعر فيه الأجانب بالقلق حيال إمداد الخزينة الأميركية بمبالغ غير محدودة من الأموال.
غير أن الاقتصاد الأميركي محط حسد العالم برمته، ويعتمد ذلك على تحول أميركا إلى سوق مفتوحة تحتضن فكرة التدمير الإبداعي والابتكار والتنافس. وفي بعض الأحيان يبدو ترمب راغباً بالعودة إلى القرن التاسع عشر، عبر الاستعانة بالإعفاءات من الجمارك والضرائب لمكافأة أصدقائه ومعاقبة أعدائه، بالإضافة إلى تمويل الدولة وتقليل العجز التجاري في خزينتها. بيد أن السياسة قد تؤدي إلى تقويض أسس الازدهار الأميركي.
ثمة سبب آخر للتخوف من وصول ترمب لولاية ثانية، وهو أن العالم كله قد تغير، إذ خلال الفترة ما بين 2017-2021 كان معظم العالم يعيش بسلام. وقد عزا أنصار ترمب ذلك لعدم قدرة أحد على توقع تصرفاته، ولاستعداده لاتخاذ إجراء شديد وغير تقليدي، وبوسع كل ذلك من شأنه أن يمنع الدول ذات الأطوار الغريبة من أن تتصرف أي تصرف شاذ عن السياق. إذ عندما حذرت النخبة التي تعمل على السياسة الخارجية من عواقب وخيمة عقب اغتيال قاسم سليماني، حصل ترمب على البراءة. ولكن هنالك حربان تهددان الأمن الأميركي مع وصول ترمب إلى السلطة من جديد. ثم إن لروسيا الكلمة العليا في أوكرانيا، وهذا ما يجعل فلاديمير بوتين في موقف يهدد بمزيد من العدوان في أوروبا. وهنالك حرب إقليمية تدور رحاها في الشرق الأوسط وتزحف باتجاه إيران، مما قد يلقي بظلاله الثقيلة على الولايات المتحدة.
وكل تلك النزاعات والحرائق قد تُخضع ترمب لامتحان لم يخضع له خلال ولايته الأولى، فوعوده العفوية بإحلال السلام في أوكرانيا خلال يوم واحد، وتشجيعه اللامتناهي لإسرائيل على اعتداءاتها لا يطمئن أي أحد، والأسوأ من كل ذلك هو نظرته الدونية للتحالفات، إذ على الرغم من أنها تمثل أهم قوة جيوسياسية لأميركا، يرى ترمب في تلك التحالفات مجرد حيل تسمح للدول الضعيفة بالاستعانة بالقوة العسكرية الأميركية. ثم إن التهويل والتهديدات قد ساعدت ترمب على الصمود، لكنها قد تدمر حلف شمال الأطلسي، أما الصين فستتخذ لنفسها موقع المراقب وهي تدرس إمكانية تبنيها لموقف عدائي ضد تايوان، كما قد يدرس الحلفاء الآسيويون حساباتهم ليكتشفوا بأنهم لم تعد لديهم أي ثقة بالضمانة النووية الأميركية.
ما الفرق بين الولاية الأولى والثانية لترمب؟
أما المخاطر التي تهدد السياسة الداخلية والخارجية الأميركية فقد جرى تضخيمها من خلال آخر فرق كبير ظهر بين الولاية الأولى لترمب والتوقعات التي تدور حول ولايته الثانية والتي ترى بأن انضباطه سوف يضعف، وذلك لأن الرئيس الذي فكر بإطلاق صواريخ على مخابر تصنيع المخدرات في المكسيك لجمه من حوله من أشخاص ومؤسسات وجعلوه يحجم عن ذلك، ومنذ ذلك الحين أخذ الحزب الجمهوري ينظم نفسه حول فكرة الولاء لترمب، في حين أجرت مراكز الأبحاث الصديقة دراسات على قوائم الموالين الذين بوسعهم شغل مناصب في الإدارة الأميركية القادمة، كما خففت المحكمة العليا القيود المفروضة على الرؤساء عبر إصدارها لحكم يقضي بعدم خضوعهم للمحاكمة بسبب أفعال قاموا بها بصفة رسمية عند شغلهم لمنصبهم.
وفي حال أصبحت القيود والضوابط الخارجية أشد مرونة، فإن الجزء الأكبر سيعتمد على شخصية ترمب نفسه، وبما أنه نظر نظرة ازدراء للدستور بعد خسارته للانتخابات في عام 2020 من دون أن يخالجه أي ندم، فمن الصعب أن نحس بأي تفاؤل تجاهه، وقد وصفه معظم كبار النواب الجمهوريين في مجلس الشيوخ بالإنسان الخسيس، ورفض نصف الوزراء في حكومته السابقة أن يزكوه، كما وصفه بالفاشي كل من رئيس الأركان السابق لديه ورئيس هيئة الأركان المشتركة السابق، لذا إن كنت عزيزي القارئ تجري مقابلة مع هذا المتقدم لشغل هذه الوظيفة، فإنك لن تغض الطرف عن تلك المؤشرات التي تعبر عن شخصيته.
يعمل الرؤساء الجيدون على توحيد البلد، إلا أن العبقرية السياسية التي يتحلى بها ترمب تتمثل بقدرته على تأليب شعبه ضد بعضه، إذ بعد مقتل جورج فلويد، ألمح ترمب للجيش بإمكانية إطلاق النار على المتظاهرين وإصابتهم في الساق، غير أن ازدهار أميركا يعتمد على التعامل مع جميع الناس بعدل وقسط، بصرف النظر عن السياسات التي يتبنونها، لكن ترمب توعد بتأليب وزارة العدل على خصومه السياسيين.
ماذا عن كامالا؟
حاولت كامالا هاريس أن تقدم نفسها كشخصية تدافع عن الاستقرار، بيد أن أدواتها كشخصية سياسية كانت مخيبة للآمال، فقد سعت جاهدة لتقنع الناخبين بما تود فعله عند وصولها إلى السلطة، لكنها بدت غير حازمة وغير واثقة من نفسها، على الرغم من تخليها عن معظم الأفكار اليسارية للحزب الديمقراطي وتقربها من الوسط الذي يؤيده ليز تشيني وغيره من الجمهوريين الذين جرى استبعادهم.
كما لدى هاريس عيوب عادية، إلا أن أياً منها لم يكن ليجعلها غير كفء لهذا المنصب، وبعض سياساتها كانت أسوأ من سياسات خصمها، ومنها مثلاً، حسها التنظيمي القائم على القوننة مع سعيها إلى فرض مزيد من الضرائب على عملية تكوين الثروة، وبعضها لم يكن على هذه الدرجة من السوء مثل سياساتها التي تتصل بالتجارة والعجز في الميزانية مثلاً، إلا أن بعض سياساتها كانت بلا ريب أفضل بكثير من سياسات ترمب وعلى رأسها ما يتعلق بالمناخ والإجهاض، ومع ذلك من الصعب تخيل هاريس كرئيسة بارعة، كما من الصعب تخيل أنها يمكن أن تتسبب بكارثة حقيقية.
لا أحد ينتظر من الرئيس أن يكون قديساً، ولهذا فإن كل الأمنيات تنصب على أن تبتعد الولاية الثانية لترمب عن أي كارثة، على الرغم من أن هذا الرجل يمثل خطراً لا يمكن لأحد أن يقبله على أميركا وعلى العالم.
المصدر: The Economist