بوتين رجل يعشق الانتصارات، وخاصة الاستعراضية منها، مثل نصر مبين في الانتخابات تعقبه حفلة موسيقية مبهجة، خطاب تحفزي في يوم النصر، وثمانية أهداف في مباراة هوكي الجليد، بيد أن النكسات المفاجئة لا تناسب هذا الديكتاتور، فنراه يختفي عن الساحة، إذ في عام 2000 تخبط في رد فعله تجاه مأساة الغواصة كورسك، وغاب لأكثر من يوم عقب الاقتحام الفاشل لمدرسة بيسلان في عام 2004، والتي قتل فيها 186 طفلاً بعد احتجازهم كرهائن.
وخلال العام الماضي، عندما تقدم ييفغيني بريغوجين وثلة من مرتزقته نحو موسكو، لم يظهر بوتين في المشهد، لذا إن احتاج لتسع عشرة ساعة كاملة حتى يخرج علينا بظهور قصير عبر التلفاز ويتحدث عن الفشل الاستخباراتي الكبير في مجمع سيتي كروكوس التجاري بموسكو، فهذا يعني بأنه يسير على النهج ذاته.
لا محاسبة تطول السلطة في روسيا
لم يقدم الخطاب كثيراً من المعلومات، بل بدا أشبه بوسيلة للتحوط والحماية، إذ بشكل مثير للسخرية، زعم بوتين بأن أوكرانيا فتحت نافذة حدودية أمام الإرهابيين عند محاولتهم الفرار من روسيا بسيارة رينو سيمبل بيضاء (جرى اعتقال أحد عشر شخصاً اتهمتهم السلطات الروسية بالهجوم) بيد أن بوتين لم يلقِ باللائمة مباشرة على أوكرانيا في هذا الهجوم، ولم يتطرق لذكر أي شيء عن تنظيم الدولة الذي أعلن أنه هو من نفذه.
قد يعبر رفض بوتين إنحاء كامل المسؤولية على أوكرانيا عن قلق من الحكومة الأميركية التي تمتلك معلومات استخباراتية يمكنها أن تكذب هذا الادعاء، وقد يكون سبب ذلك شعوره بالحرج بسبب عدم تصرف المؤسسات الأمنية تبعاً للتحذيرات الأميركية التي وصلتها في السابع من آذار حول إمكانية حدوث هجوم وشيك. إذ قبل ثلاثة أيام من وقوع الهجوم، لم يقتنع بوتين بتلك المعلومات التي وصفها بأنها مجرد ابتزاز، وهذا الخطأ الفادح القائم على الغطرسة قد تكون له تبعات في بلد يمكن أن تتعرض سلطته للمحاسبة، لكن روسيا ليست هذا البلد.
يمثل هذا الهجوم ضربة قوية لسمعة بوتين وأجهزته الأمنية التي يعتمد عليها، ولذلك لا يمكن لأحد أن ينسى خلال فترة قريبة طريقة الهجوم الذي قتل فيه ما لا يقل عن 137 شخصاً، فقد قتل بعض الضحايا في غضون دقائق معدودات من فتح المسلحين للنار بواسطة بنادقهم الرشاشة، بيد أن أغلبهم استسلموا للنيران والدخان عندما أضرم المهاجون النار بالقاعة التي يعتقد أنها كان فيها أكثر من مئتي شخص عندما انهار قسم من سقفها، وعندما وصل العاملون في مجال الطوارئ إلى المنطقة المشتعلة عثروا على 28 جثة في مرحاض واحد حيث اختبأت أسر بكاملها في تلك الأماكن، وحاولت الأمهات حماية أطفالهن بتلك الطريقة.
ثمة أسئلة كثيرة تدور حول عدم كفاءة الأمن في ذلك المكان الجذاب الذي يقع في حديقة ترفيهية أقيمت في الضواحي الواقعة شمال غربي موسكو، ولم يتضح سبب عدم تقديم الشرطة المحلية الاستجابة بسرعة، إذ ذكر منتج أحد العروض المقامة في هذا المجمع التجاري وذلك قبل عشرة أيام من وقوع الهجوم بأن 200 عنصر أمني كانوا موجودين في تلك الليلة.
ومن الجوانب غير العادية لهذا الهجوم حرصُ الجهاديين القتلة على البقاء على قيد الحياة، وهذا ما أثار نظريات المؤامرة حول تورط أقسام من المؤسسة الروسية في هذا الهجوم.
حروب وتوتر عرقي
بيد أن التفسير المقنع أكثر هو استغلال هذا التنظيم الإرهابي لالتهاء روسيا بالحروب والتوترات الإثنية والصعوبات الاقتصادية، إذ أصبحت روسيا تمثل فرصاً واضحة للتجنيد الجهادي بين صفوف المهاجرين الفقراء القادمين من دول إسلامية تقع في وسط آسيا كانت ضمن الاتحاد السوفييتي سابقاً، حيث تشير أرقام غير رسمية بأنه يقيم في روسيا نحو ثمانية ملايين مهاجر أتوا من طاجيكستان وحدها.
ويمثل هؤلاء المهاجرون حلقة مهمة في اقتصاد الحرب، نظراً لانخفاض الأجور في بعض الأعمال التي لا يفضلها الروس مثل تنظيف الشوارع أو في أعمال البناء ذات الرواتب المتوسطة. بيد أن التوترات العرقية أخذت بالتزايد، وقد تحدث عنها بوتين بطريقة غير مباشرة في خطابه الموجه للأمة في 29 شباط الماضي، وذلك عندما خفف من حدة خطابه القومي السابق وركز على التعددية العرقية لروسيا.
تعد الجماعة التي أعلنت مسؤوليتها عن الهجوم فرعاً من فروع تنظيم الدولة وتطلق على نفسها اسم تنظيم الدولة في ولاية خراسان، ومقرها الأساسي أفغانستان، إلا أن أتباعها ينتشرون في أنحاء آسيا الوسطى، وقد نفذ هذا التنظيم تفجيرين في إيران خلال شهر كانون الثاني أسفرا عن مقتل أكثر من مئة شخص. ومن الأسباب التي تدفع هذا التنظيم للحقد على روسيا هو تدخلها في الحرب السورية، فقد دعم الكرملين إلى جانب إيران نظام الأسد ضد تنظيم الدولة وبقية فصائل الثوار، ويعتقد أن تنظيم الدولة نفذ أيضاً هجوماً على ميترو سان بطرسبرغ قتل فيه 15 شخصاً في عام 2017.
عقب الأزمات السابقة، رد بوتين على أي تشكيك بقوته بشد الخناق بشكل أقوى، إذ عندما عاود الظهور أخيراً بعد مجزرة مدرسة بيسلان، أعلن بأن الضعفاء هم من يهزمون، وألغى الانتخابات المحلية المباشرة، أما قمع المعارضين وحرية الصحافة الذي أتى عقب ذلك فقد كان نذيراً بأن القادم أسوأ.
ومؤخراً، وبعد عصيان بريغوجين، جرى تفجير طائرته في كبد السماء بعد أنباء تفيد بعقده لاتفاق مع سيده.
لاشك أن الكرملين سيستغل الهجوم على موسكو كذريعة ليشدد قبضته داخلياً أكثر فأكثر، ولهذا دعا بعض أشد ضباط الجيش ولاء إلى إلغاء وقف روسيا لعقوبة الإعدام بالنسبة للإرهاب، وهذا التهديد يكتسب أهمية إضافية عندما نتذكر العادة التي انتهجها الكرملين مؤخراً في إطلاق صفة الإرهابي على أي معارض للنظام، وقد لحق هذا الوصف بكاتب عجوز يؤلف قصصاً خيالية عن الجريمة. أما جاليات المهاجرين فهي بالأصل تستشعر وقع هذه الأزمة، في ظل المداهمات التي تطول المساجد والفنادق الصغيرة المقامة في المدن الكبرى في مختلف أنحاء روسيا. ولكن ثمة قيمة للدعاية التي تتهم أوكرانيا بالهجوم، ومخاطر اقتصادية ترتبط بتهديد العمال المهاجرين، ولهذا من غير المحتمل أن يتعامل الكرملين مع نقاط ضعفه الأمنية بطريقة ممنهجة.
لقد ألمح بوتين فعلاً إلى لاحتمال تعرض أوكرانيا لأكبر عواقب هذا الهجوم الإرهابي، ولهذا قد يستغله لتبرير محاولاته في حشد مزيد من الجنود من أجل الحرب الدائرة هناك، وسيسهم الإعلام التابع للكرملين في رسم شكل هذه السردية، إذ نشرت إحدى المحطات الإعلامية "تحقيقاً" يظهر بأن الإرهابيين جندتهم السفارة الأوكرانية في طاجيكستان، أما الناشطون في منظمة antibot4navalny التي تعمل على مراقبة الفضاء السيراني، فقد سجلوا زيادة ملحوظة لنشاط الروبوتات التابعة لوكالة الأمن الروسية على وسائل التواصل الاجتماعي، ومعظم الأخبار المغرضة تتهم أوكرانيا وأميركا وبريطانيا بالهجوم الحاصل على موسكو.
بيد أن مصدراً استخباراتياً في أوكرانيا ذكر بأنه يتوقع تكثيفاً لتلك الجهود عبر استغلال حجج واهية لإعادة توجيه اللوم إلى أوكرانيا، ويضيف: "قد يشرعون باتهام فرنسا أيضاً، بما أن الرجال فروا بسيارة من نوع رينو".
المصدر: The Economist