هنالك تحولان كبيران يجريان في عالم تطوير البرمجيات، إذ منذ إطلاق تشات جي بي تي في عام 2022، تهافت المدراء إلى البحث عن سبل من أجل الاستعانة بالذكاء الصناعي التوليدي بطريقة مجدية، بيد أن معظم تلك الجهود لم تتمخض إلا عن قدر ضئيل من النتائج، ويستثنى من ذلك مجال البرمجيات، إذ تشير الدراسات الاستقصائية إلى أن المطورين في مختلف بقاع العالم وجدوا أن الذكاء الصناعي التوليدي مفيد للغاية لدرجة دفعت نحو 40% منهم للاستعانة به.
وهكذا تغيرت هذه المهنة بطريقة أخرى هي أيضاً، إذ هنالك نسبة كبيرة من مهندسي العالم تأتي من الأسواق الناشئة، ولا يوجد تعريف معياري لمهنة المطور، ولكن بحلول عام 2020 تجاوز عدد مستخدمي منصة Github وهي منصة رائجة تستخدم لتخزين الأكواد ومشاركتها، ممن يعيشون في دول فقيرة، عدد المستخدمين الذين يعيشون في الدول الغنية. وعبر اعتماد المقياس نفسه، وخلال السنوات القليلة القادمة، من المتوقع أن تتفوق الهند على أميركا وذلك عبر تحولها إلى أكبر تجمع في العالم للمواهب المتخصصة بمجال البرمجة.
وهذه التحولات مهمة نظراً لأهمية المواهب في مجال البرمجيات حيث ترتفع الرواتب، إذ يقع متوسط أجر مطور البرامج في أميركا ضمن أعلى 5% من بين كل المهن، ما يعني بأن المطورين يحققون دخلاً أعلى من المهندسين المتخصصين بالمجال النووي، كما تحتاج كبرى شركات التقانة إليهم لتحويل منصاتها إلى منصات أكثر جاذبية، في حين يرغب مدراء الشركات غير التقنية بتوظيف عدد أكبر من المطورين لمساعدتهم على أتمتتة الجهود التي من شأنها تحسين الإنتاجية كما يتمنون، إلى جانب جعل منتجاتهم تروق للمستهلكين. ولهذا السبب أصبح الجميع يترقب متلهفاً هذين التحولين، أي أن المستقبل سيقوم على عدد أكبر بكثير من المطورين الذين يتمتعون بإنتاجية عظيمة، في كنف برمجيات أرخص بكثير.
ثورة الأدوات والتقنيات الجديدة
لطالما أعانت التقنيات الجديدة المطورين، إذ إن الإنترنت على سبيل المثال أنهى مهمة الإجابة عن الأسئلة التي تستغرق وقتاً طويلاً عبر الاستعانة بالكتب. في حين يبدو الذكاء الصناعي التوليدي كقفزة أكبر نحو الأمام، وأحد الأسباب التي تجعل منه ذا فائدة كبيرة بالنسبة للمطورين هو توفيره للبيانات، إذ تشتمل منتديات الشبكة العنكبوتية، مثل Stack Overflow على أرشيف هائل من الأسئلة التي طرحت وأجاب عليها المطورون، وكثيراً ما تأتي الإجابات مع تصنيف، وهذا ما يساعد نماذج الذكاء الصناعي على تعلم ما يفيدها وما لا يفيدها. ثم إن البرمجة مترعة بسلاسل من التعليقات والاختبارات التي تعمل على التحقق من عمل البرامج بشكل جيد، وذلك بحسب رأي نيثن بينايتش من شركة Air Street Capital وهي شركة ذات رأس مال استثماري، كما يمكن لنماذج الذكاء الصناعي الاستعانة بتلك التعليقات حتى تتعلم وتتطور.
كانت نتيجة ذلك ثورة في مجال الأدوات الجديدة التي تعمل على مساعدة المبرمجين، إذ يتعقب مزود البيانات PitchBook نحو 250 شركة ناشئة تقوم بتصنيع تلك الأدوات. وتأتي شركات التقانة الكبرى في الصدارة، إذ في حزيران من عام 2022، أطلقت منصة GitHub التي تملكها شركة مايكروسوفت أداة Copilot، وكغيرها من الأدوات، بوسع هذه الأداة طرح أسطر من التعليمات البرمجية عندما يُطلب منها ذلك، ولهذا دفع نحو مليونا شخص رسم الاشتراك في هذه الأداة، بينهم موظفون 90% منهم يعملون لدى شركات صنفت ضمن قائمة مجلة فورتشن لأفضل 100 شركة في الولايات المتحدة. وفي عام 2023، أطلقت شركة ألفابيت (وهي الشركة الأم لغوغل) وشركة ميتا (الشركة الأم لفيس بوك) أداتين منافستين. وخلال هذا العام، لحقت بهما شركتا أمازون وآبل، بل إن معظم الشركات أسست أدوات لبرمجة الذكاء الصناعي حتى تستخدمها ضمن مقارها هي أيضاً.
بيد أن المساعدة التي يقدمها الذكاء الصناعي ماتزال محدودة بعض الشيء، إذ عندما سألت شركة إيفانز داتا البحثية المطورين عن الوقت الذي توفره عليهم التقانة، تراوحت معظم الإجابات التي قدمها 35% من المشاركين ما بين 10-20%، ويتجلى جزء ضئيل من هذه المساعدة في إنتاج أكواد نمطية بسيطة، غير أن هذه الأدوات ليست مثالية أو كاملة. ففي دراسة أجرتها شركة GitClear للبرمجيات، تبين بأن جودة الأكواد قد تراجعت خلال العام الماضي، ولعل السبب في ذلك يعود إلى الاستعانة بنماذج الذكاء الصناعي. وفي تقرير استقصائي أجرته شركة Synk للأمن الرقمي، تبين أن أكثر من نصف الشركات ذكرت بأنها اكتشفت مشكلات أمنية ضمن الأكواد الضعيفة التي شكلها الذكاء الصناعي. كذلك مايزال الذكاء الصناعي عاجزاً عن معالجة مشكلات برمجية أعقد.
ولذلك يجب أن يكون الجيل القادم من هذه الأدوات أفضل، إذ في شهر حزيران الماضي، طرحت شركة Anthropic وهي شركة ذكاء صناعي ناشئة نموذجها الأحدث وهو Claude 3.5 Sonnet الذي يعتبر أفضل من أسلافه في مجال البرمجة وأمور أخرى. وفي 12 أيلول الماضي، أطلقت شركة OpenAI التي صنعت أداة ChatGPT نسخة من أحدث نموذج لها، وهي النسخة 01 وزعمت بأنها تتميز بتوليد أكواد معقدة وتصحيح أخطائها بدقة.
المرونة مطلوبة
يمكن لأدوات الذكاء الصناعي أن تساعد في أداء مهام عادية أخرى (أي ما يعرف بالكدح في لغة البرمجة)، مثل تدوين ملاحظات حول ما تفعله الأكواد أو تصميم اختبارات للتأكد من عمل الأكواد بشكل صحيح. أي أن كتابة الأكواد ما هي إلا جزء من عمل هندسة البرمجيات، ويمثل ذلك نحو 40% من الوقت المخصص لذلك، وذلك بحسب ما أوردته شركة Bain للاستشارات. هذا وبوسع الأدوات أن تساعد المطورين في أن يتمتعوا بقدر أكبر من المرونة وذلك عبر تنقلهم بصورة أسرع عبر لغات البرمجة، والسماح لهم باستعمال مهاراتهم في ظروف مختلفة بسهولة أكبر، إذ يخبرنا يورو بينات من شركة بروسوس الاستثمارية بأنه رأى مهندسين ينتقلون من لغة إلى أخرى في غضون أسبوع واحد بدلاً من أن يتم ذلك خلال ثلاثة أشهر، في حين أعلنت أمازون مؤخراً بأنها وفرت 260 مليون دولار عندما حولت آلاف التطبيقات من شكل إلى آخر من أشكال البرمجة عبر الاستعانة بالذكاء الصناعي.
تنطبق المرونة التي تم اكتشافها مؤخراً على أنواع مختلفة من البرمجة، إذ في السابق كان لابد من توفر فريق مؤلف من ستة أشخاص للعمل على أجزاء مختلفة من البرمجة الخاصة بإنتاج تطبيق صغير، مثل واجهة المستخدم أو عملية تطوير البرنامج وصيانته واكتشاف أخطائه والعمل على إصلاحها. ولذلك تخبرنا جينيفر لي من شركة Andreessen Horowitz وهي شركة كبرى ذات رأسمال استثماري، بأنها أصبحت ترى شركات ناشئة أكثر توظف عدداً أقل من الأشخاص، بما أنه بات بوسع المبرمجين القيام بكثير من المهام المتنوعة بسهولة أكبر. ويرى كثير من مدراء شركات تقانة المعلومات بأن تدريب مطورين جرى توظيفهم حديثاً على خصوصيات برامج شركاتهم أصبح يتم بسرعة هو أيضاً.
يبدو من خلال كل ما ذكرنا بأن معظم تلك الأمور باتت تساعد المهندسين الذين لا يتمتعون بأي خبرة على التطور، إذ يصبح بوسع هؤلاء القيام بمهام أعقد بسرعة أكبر كما أن الأعمال التي كانوا يمارسونها بات بوسع أي إنسان عادي القيام بها. هذا وسيعمل الذكاء الصناعي على تعزيز التوجه المتزايد نحو منصات ذات لغة برمجة منخفضة المستوى أو من دون لغة برمجة أصلاً والتي تتيح لأي شخص كتابة البرنامج، إذ يستخدم مصرف البرازيل الذي يعمل على إقراض الناس في البرازيل هذا النظام ليتيح للموظفين تطوير مئات التطبيقات مثل تلك التي تسهل عملية مساعدة العملاء في البحث عن أنواع التأمين.
طفرة جديدة
وثمة نتيجة أخرى لثورة البرمجة تتمثل في احتمال تعرض صغار المطورين في الدول الغنية لمنافسة أشد من خارج تلك الدول، إذ بحسب شركة إيفانس داتا، من المتوقع لعدد مبرمجي الحاسوب أن يرتفع بنسبة 21% في آسيا وبنسبة 17% في منطقة المحيط الهادئ خلال المدة ما بين 2023 و2029، وذلك مقارنة بنسبة 13% في أميركا الشمالية و9% في أوروبا. وتشير حالة اختلال التوازن هذه إلى احتمال ظهور طفرة في الاستثمار بالمطورين الموجودين في الدول النامية أو الاستعانة بمطورين من الخارج مع استمرار هذه الطفرة. وترى شركة إيفريست الاستشارية أن نحو نصف ما ينفق في مجال تقانة المعلومات يصرف على موظفين من خارج المؤسسات، ويشمل ذلك كثيراً من الوظائف في مجال تطوير البرمجيات. أما الشركات الأخرى التي حافظت على خدمات تقانة المعلومات ضمن مؤسساتها فقد أسست عوضاً عن ذلك مقارّ لها في الخارج، وذلك حتى تستفيد من انخفاض الأجور هناك. وتعتبر الهند محرك القوى العالمي في هذا السياق، إذ في عام 2023، بلغت قيمة صادرات البرمجيات وما يتعلق بها من خدمات 193 مليار دولار، نصفها جرى تصديره إلى أميركا.
وهذا ما يساعد الشركات على التحكم بالنفقات، إذ يقول شاشي مينون المسؤول عن الجهود الرقمية في شركة شلمبرجير، وهي شركة تقدم خدمات في مجال النفط والغاز: "إنها طريقة رائعة للتطور... من دون تخريب الميزانية"، إذ إن نصف فريقه الهندسي تقريباً موجود في بيجين وبونا الهندية.
أصبحت إمكانات الاستثمار في مبرمجين من الدول النامية غاية في التعقيد، إذ إن بعض الفروع المقامة في الخارج أصبحت تقدم اليوم برمجيات أسياسية إلى جانب أجور عالية، وهذا ما دفع سانجيف جين من شركة Wipro الهندية للقول إن المهندسين لديه أسهموا في تصنيع أداة Teams وهي خدمة تعتمد على بث صورة مرئية وتتبع لشركة مايكروسوفت، إلى جانب تصميم الشرائح والبرامج الخاصة بالسيارات القابلة للوصل، والتي تعتمد على أجهزة وخدمات أخرى، كما يمكن للذكاء الصناعي أن يساعد الشركات التي تستثمر في مبرمجين موجودين في الدول النامية في إنتاج برمجيات أكثر أناقة، بوسعها هي أيضاً أن تبيع الذكاء الصناعي نفسه، ولهذا أعلنت شركة Infosys الهندية مؤخراً بأنها وقعت عقداً مدته خمس سنوات وقيمته مليارا دولار وذلك لتزويد الذكاء الصناعي وخدمات الأتمتة لعميل لم تسمّه.
ولكن لم يتضح حتى الآن ما يعنيه كل ذلك بالنسبة للمطورين، إذ ثمة رأي يرى أن الذكاء الصناعي والاستثمار في المبرمجين الموجودين في الدول النامية سوف يسهم في القضاء على وظائف مطوري البرمجيات الغربيين دفعة واحدة، ولكن يبدو أن هذا الأمر لن يتحقق إلا على المدى البعيد، بما أن كماً هائلاً من المعارف التقنية مايزال بحاجة لجمع أجزاء التعليمات البرمجية مع بعضها والتحقق من صحة عملها.
أما الرأي الأكثر تفاؤلاً فيرى بأن الحواسيب ستقوم بالأجزاء المملة من صناعة البرمجيات، في حين سيقضي المطور وقته في العمل على حل مشكلات أعقد وأهم، وقد يكون ذلك الرأي هو الأقرب للحقيقة، ولكن في الوقت ذاته، نجد العملاء يرحبون بهذه التوجهات، كما أن مدراء شركات تقانة المعلومات ظلوا مدة طويلة يعلنون أن مدراء الأقسام لديهم يطالبون بمزيد من الأتمتة بوجود ميزانية أقل، ولكن بفضل الذكاء الصناعي والاستثمار في الدول النامية، قد يصبح هذا المطلب ممكناً.
المصدر: The Economist