ما يميّز الوضع في سوريا اليوم هو انخفاض الاهتمام الدولي في المجالين المادي والرقمي لدرجة كبيرة، وحصره بمجالات ضيقة يمكن تسميتها مجالات غير فاعلة، تتلخص بفرض العقوبات على النظام وداعميه، مع إمكانية تعليقها جزئياً أو كلياً، وفقاً لحسابات وتوازنات سياسية ومصلحية، والدعوة إلى عدم التطبيع مع النظام مقابل لا شيء، لكن من دون موقف جدي تجاه عمليات التطبيع الجارية، ومن ناحية أخرى، على صعيد الوضع الداخلي، بينما يعيش السوريون أقسى فترة في تاريخهم، تتداعى بعض الشخصيات في العالم الافتراضي -من دون أن يكون لها وجود على الأرض- لتأسيس المجموعات المتكاثرة كالفطر، وطرح المشاريع المستقبلية، مع تجاهل مقصود أو غير مقصود لمشكلة الحاضر الكبرى، وهي كيفية الخلاص من النظام، الأمر الذي يخلق التباعد، وأحياناً يولّد الكراهية.
فالموقف الدولي يتعامل مع سوريا كحالة صراع مطوّل ومجمّد، بمعنى الحفاظ على الوضع الحالي من دوائر النفوذ التي أخذت شكلها النهائي منذ العام 2018، مع اختلاف المصالح والدوافع لكل طرف فاعل في سوريا. وعلى هذه الحالة، تتصرف تلك الدول، فروسيا وإيران، اللتان تسعيان إلى فك عزلة النظام ورفع العقوبات المفروضة عليه، تبتزان العالم بغاية الحصول على الأموال اللازمة لإعادة الإعمار، بحجة مزعومة وهي توفير البيئة لإعادة المهجرين، كونهما لا يملكان الأموال اللازمة لذلك، وعلى الطرف الثاني تنحصر مهمة الغرب وتحالفها بمحاربة الإرهاب من جهة، والاستمرار في سياسة التضييق عبر العقوبات المفروضة على النظام وأعوانه من جهة أخرى، لكن من دون موقف جدي رادع لمساعي التطبيع واحتواء النظام من جديد، وترسيخ استبداده.
تنطلق تلك الشخصيات والجماعات، بصرف النظر عن مرجعياتها الأيديولوجية، من نقطة مفادها أنها تمسك بالحقيقة، وهو ما يؤهلها لتلعب دور الواعظ والحكيم
ونتيجة لحال السياسة في سوريا سابقاً الذي تمثلَ بغياب تشكيلات سياسية ذات حوامل اجتماعية شعبية، ومسيرة المعارضة بمختلف تلويناتها خلال الاثني عشر عاماً الماضية، التي تميزت بسمة مشتركة رغم التمايزات العديدة، وهي حالة الارتهان، وهو ما منعها من إمكانات إنشاء هياكل سياسية رسمية مستدامة وشرعية، وبالتالي بقيت من دون مؤسسات متوازنة لصياغة تصورات أكثر قبولاً ومعقولية، لنشرها من أجل الحصول على موافقة عامة أوسع، تأخذ في الحسبان سياق تطور الحدث السوري بعناصره المختلفة، والتفتت نتيجة لارتهانها ولعوامل أيديولوجية متأصلة إلى تعميق الانقسامات القائمة بالأساس، بدلاً من أن تقدم تصوراً لتجاوزها، وهو ما أدى إلى زيادة الانقسام، وإبعاد ملايين السوريين عن مطالبهم المشروعة في الكرامة والحرية والمساواة، ودفعهم نحو افتراضات ذاتية بسيطة، والتمترس خلف هويات متضاربة.
تنطلق تلك الشخصيات والجماعات، بصرف النظر عن مرجعياتها الأيديولوجية من نقطة مفادها أنها تمسك بالحقيقة، وهو ما يؤهلها لتلعب دور الواعظ والحكيم الذي يمتلك القدرة من خلال ادعائها بامتلاك الوعي على توعية الجمهور "الجاهل". يبدو الأمر أشبه بمفارقة ساخرة، أن تخاطب جمهوراً تصفه بالجهل، وتناشده في الوقت نفسه أن يكون الحامل الاجتماعي للوعي الخلاصي الذي تدعيه. يكشف الادعاء المذكور عن حالة العقم التي تعيشها بقايا الجماعات السياسية السورية، ووهمها بأنها لا تزال تمتلك القدرة والوعي وحتى المفاتيح السحرية لحلّ ما تطرحه الحياة بتعقيداتها من مشكلات، بينما تشير الوقائع إلى أنها غير قادرة حتى على تشكيل أي حالة عمل جماعي، رغم خطابها المتشابه حتى بالكلمات.
وعند التأمل في دوافع تلك الجماعات التي لم تنتج حالة وطنية، وإنما تساهم -بشكل أو بآخر- بالتباعد أكثر، يمكن أن نرى نوازع الهيمنة الكامنة في خطابها، التي تتضح من خلال التصورات المتضاربة حول ما يجب أن يكون عليه شكل الحكم، وحتى المجتمع في المستقبل. وربما يفسر هذا زيف الديمقراطية التي تدعيها تلك الجماعات التي تفترض بالضرورة إمكانية العمل مع المختلف، رغم المصالح والمواقف المتضاربة تجاه القضايا المطروحة، ويكشف من جهة أخرى استمرار الارتباط العميق مع الأيديولوجيات السابقة لها، فالإسلامي يدعّم طروحاته بأنه الأكثر ارتباطاً بالله، وبالتالي فهو على جانب الصواب، والماركسي يرى أنه من يمتلك معرفة حركة التاريخ، أما القومي، فلا يزال الحنين إلى الماضي يأسره.
مثلّت الثورة السورية بمطالبتها بالكرامة والحرية جوهر المشكلة التي يعاني منها السوريون ولا يزالون منذ أكثر من خمسين عاماً، المتمثلة بسيطرة الاستبداد الذي خنق المجتمع، ونهب البلاد، وحوّلها بالنهاية إلى مملكة رعب يتوجس سكانها في أحلامهم من عسسها. وبسبب حالة التباعد بين "الأطراف" السياسية التي شكّلت منها الأطراف الدولية والإقليمية ما يعرَف بالمعارضة، لم تستطع المعارضة هذه كسب وجدان وثقة السوريين، وبالتالي تحويل مطالبهم المحقة إلى واقع ملموس، فاكتفت بطرح الشعارات والمهام، من دون النظر إلى التطورات على الأرض، وهو ما أبقى المطالب مجردة، غير متجسدة في أهداف ملموسة، وأدخلها في حلقة من التيه والضياع ساهمت في ابتعادها أكثر عن الجمهور، وارتباطها أكثر بالمصالح الدولية.
إن اعتماد الجماعات والشخصيات المعارضة على الأيديولوجية، مهما كانت طبيعتها، لتفسير حركة الحاضر المتغيرة باستمرار، يجعل منها تعيش بحالة من الاغتراب عن المجتمع، وبالتالي يجعل من طروحاتها أوهاماً تدعي صحتها، حتى لو كانت مجافية للوقائع وحركيتها، ويفقدها القدرة على تجسيد أي مهمة محددة بعينها لإنجازها. ومن ناحية أخرى، نتيجة لشعورها بالعجز وحالة الاغتراب التي تعيشها، تتحول إلى جماعات همّها السيطرة على بعضها بعضاً، وانتقاد بعضها بطريقة ساخرة، بدلاً من تركيز طاقتها والعمل المشترك الذي تتطلبه ألف باء الديمقراطية. وباختصار تتحول إلى جماعات هدفها الثرثرة من خلال الغرف الافتراضية التي يوفرها الفضاء الرقمي، بعد أن فقدت وجودها المادي.
أولى الخطوات هي الاستغناء عن الأيديولوجيا لتفسير الحاضر، والانطلاق من الوقائع التي تتبدل باستمرار لصياغة المهام والأهداف
لن تتحقق الأهداف بالخطابات، وإن كان من الضروري جداً أن تكون تلك الخطابات واضحة، وتحقيقها معتمد على تحويلها إلى مهام محددة يمكن إنجازها بالتتالي، وأولى الخطوات هي الاستغناء عن الأيديولوجيا لتفسير الحاضر، والانطلاق من الوقائع التي تتبدل باستمرار لصياغة المهام والأهداف، الوقائع التي يجسدها البشر وبنياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتفاعلاتها. إن حال سوريا اليوم يدعو الجميع، بل يجبرهم على إعادة النظر بتجربتهم الأيديولوجية، والانتقال إلى حقل السياسة، حقل التصورات المستمدة من الوقائع، والتفاعلات بينهما، وغير ذلك، لن نرى سوى حالة التفتت وانتشار خطاب الكراهية الذي تعززه أوهام الإنجازات في العالم الافتراضي.
ولتحقيق قدر من الفاعلية في حقل السياسة، لا بد من جسد يلتصق بالسوريين، والالتصاق ليس مكانياً فقط، وإنما يعكس أحوال السوريين بمطالب محددة قابلة للتحقيق، يتمتع بالحد الأدنى من الاستقلالية أولاً، ويمكنه أن يوازن بين مطالب السوريين بالتحرر من حكم الاستبداد الأسدي، كونه مصلحة وطنية للغالبية العظمى، والعلاقة مع الأطراف الخارجية الداعمة لتلك المطالب، ولن يكون هذا الجسد من خلال بقايا القوى السياسية القديمة، فقد أنجزت "مهمتها"، وما تفعله اليوم من مؤتمرات واجتماعات لا يخرج عن تكرار تجاربها بصيغ جديدة، وعليها أن تفسح المجال لتشكيل جديد لا يهمل تلك التجربة، لكنه غير مقيدٍ بها.