لم يعد الحد الفاصل بين اللوحات اللفظية واضحا! لقد تجاوزت استعارات الخصائص، فامّحت الكثير من الحدود بينها. من هذا الباب دخلت قصيدة النثر، وأخذت حقها في الوجود إلى جانب القصيدة العمودية الراسخة في أصالتها التاريخية. إذ أن كلاهما ذهب إلى البحث في المعاني والدلالات التي تتسم بها اللغة. وأصبحت الصورة هي الطريدة التي يلاحقها الكتّاب، ويرحلون بها إلى عالم فائض، وبديل للواقعي الضيق.
هذه الحال شملت (القصة والرواية والخاطرة والمقالة). وصار بإمكاننا تتبع مسارات التأويل، والبلاغة والمجاز والانزياحات في النثر كما في الشعر، علما أن "أغلب المختصين ممّن وقفوا على خصائص الكتابة اتفقوا على أن الشعر ابتكار للمعنى من خلال صور التعبير"، مع التأكيد على وجود الوزن والقافية.
هذا الاتفاق لم يعد قائما بشكل عام، فثمة فئة من الكتّاب توقفت عنده، وأخرى تجاوزته، إذ أن تجاذب الجماليات لم يعد من اختصاص الشعراء وحسب، بل أصبح علامة دالة على الكثير من كتّاب النثر بكل أشكاله، وكذلك فعلت قصيدة النثر بانفتاحها على إمكانات السرد، ولم تكتف بكونها قصيدة مطبوعة بجماليات شعرية جديدة. كتب محمد الجبوري:
"عشرةُ أعوامٍ وأنا ألعبُ خارجَ المنزلِ يا أمّي؛ ولم أسمعْ صوتكِ يُناديني:
فوت أبو جويسِم، فُوت يا ابني برِد برّا
سأدخلُ فوراً لو ناديتني هذه المرّة،
بردُ الخارجِ جعلني كبيراً،
أكبر بكثيرٍ من جدارِ الحوش الّذي كنتِ تحذرينني من المشي عليهِ، ومن الساقيةِ الّتي كدتُ أغرقُ فيها ذاتَ يوم".
هذا يعني أن كل نص هو ورشة تجريب. أو كما قالت نازك الملائكة: "قد يكون الشِّعر بالنسبة للإنسان السعيد ترفاً ذهنياً محضاً، غير أنه بالنسبة للمحزون وسيلة حياة". وسواء كان ترفا، أو وسيلة حياة فهو يمثل وعي العلاقة بين الذات والموضوع. لذلك كان لكل شاعر رأي في الشعر. يقول الدكتور عماد أحمد عن الشعر في يومه العالمي:
"هو ذا...
مثل لبن حامض
مثل طقطقة الأصابع قبل الامتحان بدقائق
مثل أسماء المدن التي تصلُ سن اليأس باكراً
مثل حديث جانبيٍّ
عن أوراق الزعتر وحبة البركة ومنقوع البابونج
مثل قصص الجدّات قبل النوم
وتظاهرهنَّ بالرضا عن كل شيء".
أحمد رشاد يكتب من الرقة وعنها تلك الخلاصة:
"هنا دم وماء وتراب، وكثير من الخوف والوجع والحارات المبللة بالحكايات والقهوة وسيرتهن.
فإذا مرّ بك شاعر، فاترك له حبل الغسيل وشرفة منزلك ودعه يرتب الأحياء كما يشاء".
بهذه الإشارات اللغوية النثرية الغنية بالإسقاطات الرمزية الموازية للواقع، يأخذنا أحمد رشاد إلى وظيفة الشاعر، دون ذكر لماهية الشعر وطبيعته.
في المقالات التي يكتبها الشعراء كثيرا ما نلاحظ خروجهم على الكلام الذي يصف واقع الحدث، إلى كلام فيه من الشعر ما فيه
فالمرجعيات النظرية للأدب كانت وما زالت لاحقة عليه، أو مواكبة له، وليست سابقة على وجوده، وإن كان بعض النقاد يرون أنها هي التي فتحت طريق القول، وحددت فروعه وأصوله. إلا أن الإلمام بتلك المرجعيات يقتضي خبرة متقدمة، ورصيد معرفي كبير، ليكون الكاتب مؤهلا لإدراك قابلية تلك المفاهيم للتنقل عبر حدود الخطابات بأنواعها. فاللغة هي تمثلات ذهنية لا تنفصل عن تصور مستعملها، وبإمكاننا أن نضيف بأنها لا تنفصل عن تصور قارئها أيضا، لأن القراءة تجعل من النص أفقا ليس له حدود.
في مقالة للكاتب علي حسن الحمد (القدس العربي- 10 آذار 2023) تحمل عنوان "أخبّئ أصابعي مستسلماً للندم"، هذا العنوان الذي يقف على أطراف فنون القول يمكنه أن يدخل إلى الشعر ويكونه، وإلى النثر ويكونه أيضا. هذه عتبة أولى، في المتن ثمة عتبات مشابهة:
"فجأةً تغدو الجدران مرايا"، "الضوء مخفيّ، والبابُ وراءه باب، وراءه تجلس الحريّة"، "رسمتُ بابا مفتوحا كي يخرجَ منه كلّ العالقين"، "غفوتُ على عتبة الباب المرسوم، وحينَ صحوت لم أعِ أين أنا أو كم لبثت".
وحين يتحدث عن البدوي الذي كانه، يقول: "يبسَتْ مواسمه التي سقاها من عينه اليسرى بيُمناه التي اهترأتْ أصابعها من الندم". تلك الموتيفات المجتزأة من المقالة ليست شواهد شعرية، رغم شاعريتها التي لا تحتاج إلى برهان، وليست أفكارا عميقة تحولت إلى صور، إنها أحداث وحياة وضعها الكاتب في شكلها الفني من اللغة. مما جعل المقال المختصر ليس محددا أو مغلقا. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه اسم التميز المكثّف. "وهو يساوي تزامن الملاحظة الكتابية مع الإثارة" كما يقول رولان بارت.
في المقالات التي يكتبها الشعراء كثيرا ما نلاحظ خروجهم على الكلام الذي يصف واقع الحدث، إلى كلام فيه من الشعر ما فيه، شاهد ذلك ما جاء في المقال الذي كتبه الشاعر الروائي عيسى الشيخ حسن عن الزلزال في موقع سيريا مونيتور حيث يقول في معرض حديثه عن الحروف العربية:"كانت مواقف عبد الجبار النفّري، قد ألهمت فنّاني الحروفيات كي يشدّوا وثاق الحروف بحبال ملوّنة".
هذا الوعي للعلاقة القائمة بين التلوين والحروف والحبال، وجمع تلك المتفرقات في جملة ذات جمال لم يعد من اختصاص الشعر وحده، بدليل أن الشاهد جاء من مقالة.
في المقابل نقرأ في قصيدة (شعر) للدكتور موسى رحوم عباس: "كأنِّيَ أسقطُ الآنَ من سُرَّة الكونِ/ شظايا نيزكٍ ضَلَّ طريقه/ في مداراتٍ من الوهمِ وأكاذيبِ الحكاية/ لا النَّارُ تأخذني إلى الأعلى/ ولا أصِلُ النَّهاية".
هذا الخروج على القوالب الجاهزة للخطاب البلاغي، لديه مشروعية التكيف مع واقع الحال، وما آل إليه فن الأدب حيث لم يعد ينظر للشعر على أنه النثر مضافا إليه الوزن والقافية.
كتب محمد الجبوري:
"قبل النّوم أحكي لابنتي خرافةَ الوطنِ والبيوت الدّافئة
فتغضبُ بطاقةُ اللّجوء
تجمعُ كلَّ صقيعِ العالمِ وتلقيهِ في خيمتنا".
فالشعر هنا ليس نقيض النثر بل هو الأدنى من جيرانه، وما أكثر ما يستعير أحدهما أدوات الآخر؟ إنهما كالأواني المستطرقة، يفيض أحدهما على الآخر كلما دعت الحاجة. وهذا يؤكد ما ذهب إليه "تودوروف" في شعرية الخطاب، أي الشعر والنثر التي تجمعهما روابط الأدبية.