شكل الأنين دوماً وأبداً في كل مكان، رمزاً للحزن والأسى والألم، لكنه تحول لمصدر فرح وسعادة وحياة للسوريين خلال الزلزال، وأصبح مصدراً لإنقاذ الأرواح وانتشال الجرحى وإزالة الأنقاض، آليات ثقيلة كبيرة ضخمة تصمت للحظات بحثا عن الأنين الذي يُشبه برنامج تحديد الموقع الجغرافي الموجود في الهواتف النقالة، وتعاود العمل للعثور على صاحبه. ذلك الأنين الذي إن استمر استمررنا بالأمل، وإن توقف قُهرنا وبكينا أمام الصغار الذين كُنا نقول لهم، الرجال لا يبكون في المواقف، وإن المريض يجب أن يكبح أنين أوجاعه، شكل الأنين المتسرب من بين تشققات المنازل وتحت الأنقاض، مصدر فرح وفألاً حسناً للآلاف من الأهالي المنتظرين العثور على ذويهم أحياء، أو حتى جرحى ومصابين. أنين يواجهُ أطنان الركام، وحمولة الضغط العالية، ومخرجاً لحالة اليأس والفناء التي تعرض لها السوريون خلال 12 عاماً. الأنين كان نداء إغاثة دون أن يعي ذلك الكامن تحت الحجارة أنه يُرسل شيفرة بقائه على قيد الحياة، وإشارة مجهولة الشخصية تلقفها المُنقذ.. لكن الأنين توقف لتتوقف معه القلوب، كمن تغيب الشمس عنهم.
لم يمت السوريون تحت أنقاض المنازل المهدمة بالزلزال، بقدر موتهم تحت أنقاض الإنسانية ومفاهيمها
تسبب الزلزال بإضعاف فكرة الإنسان الحديث إلى أكثر الحدود الدنيا. فرغم تمكن العقل البشري من الاختراعات والوصول إلى الفضاء، لكنه يبقى عقلاً متصدعاً أمام قوى الطبيعية وجبروتها. وإن كانت الزلازل والبراكين تمتاز بالقوى الخارقة التي لا مجال لمقاومتها أو كبح مفاعيلها. لكن ثمة نقيصة أخرى تتعلق بالإنسان حيال الإنسان، خاصة بعد ما عُرف بعصر الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان والمنظمات الفاعلة في الضغط والتأثير على مراكز القرار في دولها، جاء الزلزال في سوريا ليُطيح بتلك السرديات ويعيدها لحجمها الطبيعي، وحدودها الجغرافية التي تفصل بين البشر وتميز بينهم. وبات من حقنا نحن السوريين المكلومين من الزلزال القول المكثف والمختصر للعالم الذي يُعرف عن نفسه بالمتحضر والمتضامن مع قضايا الإنسانية وحقوقها: لم يمت السوريون تحت أنقاض المنازل المهدمة بالزلزال، بقدر موتهم تحت أنقاض الإنسانية ومفاهيمها والتي وفقاً لممارسات "الإنسانية الدولية" لا تصلح لنا، نحن الشعب المبتلى بداء العنف والاستبداد، ولا مكان للشعوب العربية والكردية في هذا العالم البائس، هم مخصصون للقتل والموت والتدمير. ويمكن القول أيضاً، بأن 12 سنة من الحرب، كانت كفيلة بتدمير الإنسان السوري الذي كان ولا يزال وحيداً أمام جبروت الصواريخ والسلاح، واستمر عزله دولياً مع الزلزال. مع العلم أن غالبية السكان الموجودين في شمال غرب سوريا، إنما لجؤوا إليها بعد الاتفاقيات الدولية وإخراج الأهالي والفصائل المسلحة من مدنهم إلى الشمال الغربي، بمعنى أدق، هذا العدد الهائل من المتضررين في جندريس وإدلب وغيرها، يتحمل سبب ذلك المجتمع الدولي نفسه. هؤلاء اللاجئون، هم من فقدوا بيوتهم وأملاكهم وذكرياتهم في مدنهم الأصلية، ثم شاهدوا التاريخ يعيد نفسه بحذافيره، الأرواح والأجساد والمنازل والأعمال والأموال والذكريات، كُلها فُقدت مُجدداً. ويبدو أن لا حرج ولا مبالاة إزاء عذابات السوريين دوماً وأبداً، وتالياً لا غرابة إن وجدنا جيلاً سورياً فاقداً للشعور بالآخر، خاصة أنهم ترعرعوا على مشاهد الدم والتهجير والهجرة والصواريخ والمعارك، وحالياً هدم المنازل فوق رؤوسهم أحياء دون سندٍ أو تعاطف دولي.
أحدث الزلزالُ تصدعات في عمق الإنسان السوري وربما انهيارات، والتي كانت سياسات التعامل مع الزلزال في شمال غرب سوريا مُحركاً أساسياً، حيث كان ممكناً إنقاذ المزيد من الأرواح تحت الأنقاض لولا نقص المعدات. ولم يشعر بالسوريين سوى السوريين أنفسهم، من أُنقذ، أنقِذَ على يد الأهالي والخوذ البيضاء الذين واصلوا الليل بالنهار لإنقاذ الأحياء وانتشال الجثث، وهؤلاء وحدهم من يستحقون جائزة "الإنسان الحديث".
الزلزال انتهى كفاعل مجرم زهق الأرواح والحيوات. وعمليات البحث تحت ركامه في طريقها للانتهاء، لكن ما لم يبدأ أو لم يتم البحث فيه هو كارثة صحية مقبلة في سوريا من جراء الزلزال. فالكوليرا انتشرت في شمال غرب سوريا قبل الزلزال بأشهر، ولم يتم تغطية سوى جزء من الاحتياجات، لكن اليوم حتى تلك التغطية توقفت وبات من الصعب جداً مواجهة الوضع المتدهور، بل إن العديد من المتضررين من جراء الزلزال أصبحوا مهيئين أكثر للإصابة بالكوليرا وانتشارها بينهم. خاصة أن غالبية المشافي الموجودة في شمال غرب سوريا كانت بالأساس تعاني من الكثير من الصعوبات والنقص في المواد الطبية والأدوية بسبب نقص التمويل للمساعدات الإنسانية وصعوبات الوصول للعديد من تلك المناطق، وشريان الحياة الوحيد لهم -معبر باب الهوى- بقي عرضة للتوترات السياسية قبل الكارثة وليس بعيداً أن تتعمق تلك التوترات. مع امتلاء المراكز الطبية والمشافي بالمصابين وجرحى الزلزال ومع الأضرار الفادحة في شبكة المياه والصرف الصحي، ولجوء الأهالي للحدائق والأراضي الزراعية وحقول الزيتون حيث المياه الملوثة، واشتراك العديد من الأسر والعوائل بخيمة واحدة، فإن نسبة الإصابة بالكوليرا أصبحت أكبر. ومع استمرار المنظمات الدولية في الإحجام عن مساعدة شمال غرب سوريا المنكوب واستمرار القيود التي تمنع من إدخال المساعدات، فإن ملايين الناس تحت خطر الإصابة بالكوليرا.
ضحالة الإمكانيات وغياب المؤسسات المتخصصة بعمليات البحث تحت الأنقاض تسببت بضعف الاستجابة، خاصة أن حجم الكارثة فاق حجم البنية التحتية الموجودة
وحدها التجربة ساعدت السوريين على إنقاذ أقرانهم من الدمار، فمن كان ذا خبرة سابقة في اهتزاز الأبنية وانهيارها خلال عمليات القصف والحرب في مختلف المناطق من سوريا، كانوا سباقين في ردة الفعل في الإنقاذ والهرب والإسعاف والنزوح مجدداً، وهي مرثية الهرب من الموت مراراً، وخبرة الاستفادة من تجارب مواجهة الدم والحرب. في حين أن مناطق أخرى اقتصرت خبرتها على مشاهدة كل تلك الأحداث عبر الإعلام وحده، ولم تكن ذات تجربة ميدانية، وهي أيضاً مرثية "النقص الحاصل في تراكم ثقافة مواجهة الموت". لكن نقص المعدات واللوجستيات، يعيق عمليات الإنقاذ. فمنظمة الخوذ البيضاء تعتمد على روايات الأهالي في البحث عن ذويهم تحت الأنقاض، وليس من الثابت بقاء الضحايا في نفس المكان لحظة الزلزال، أو سماع صوت الجرحى وأنينهم ليقود فرق الباحثين للنبش والبحث تحت الأنقاض، والتي من الممكن أن تتسبب كثافة الهدم وتراكم الحجارة بمنع وصول الصوت. وللأسف فإن ضحالة الإمكانيات وغياب المؤسسات المتخصصة بعمليات البحث تحت الأنقاض تسببت بضعف الاستجابة، خاصة أن حجم الكارثة فاق حجم البنية التحتية الموجودة، والمؤسف أن قلة الوقود كان عاملاً إضافياً للحد من قدرة العمل. وكلما كانت الكارثة أكبر كانت النتائج المرجوة أقل؛ بسبب ضعف الإمكانيات، ويلعب الوقت والدقة الدور الحاسم في عمليات البحث، والتي تحتاج الفرق خلالها للكلاب المدربة، وأجهزة الاستشعار الزلزالي، وأجهزة الاستماع لنبضات القلب والطائرات المسيرة لرصد حرارة الأجسام تحت الأنقاض عبر الكاميرات الحرارية التي تشير لحرارة الأجسام تحت الأنقاض، وكامل الكتلة غائبة وغير موجودة لا في الشمال الغربي، ولا عموم المحافظات السورية المنكوبة، كاللاذقية وطرطوس وحماة وغيرها.
ما عاد لقلوب وحيوات السوريين مكان آخر للفواجع بعد اليوم، وربما لن نجد سوريين يَذهلون من كارثة مقبلة، خاصة أن العالم كله تعرى أمام هول غياب الاهتمام ومنع المساعدات الدولية عنهم، وإذا استثنينا قوافل مؤسسة البارزاني الخيرية، وقطر، فإن السوريين في شمال غرب سوريا لن ينسوا تخاذل العالم معهم، خاصة أن هؤلاء لم يتأدّبوا في حضرة جراح السوريين، وفقدوا إنسانيتهم.