"أيَّة حياة مهما كانتْ تافهة ستكون ممتعة إذا رُوِيَتْ بِصِدْق" كولردج[1]
بهذا السطر الجميل يستهل الكاتب محمد عبد العزيز كتابه الثاني "الأنس بالراحلين" وهوالجزء التالي من متابعاته لمذكرات أناسٍ كانت لهم فاعلية في أبواب متنوعة من هذا العالم، بعد أن قدم جزأه الأول بعنوان "مودة الغرباء" والذي أوجز فيه مذكرات وتجارب لعددٍ من الأعلام.
يعيش كاتبنا شطراً من لياليه، مع عالم المذكرات واليوميات، التي تعرض لنا أزمنة وبقاعا مختلفة من هذا العالم الصاخب، من خلال أشخاص كانت لهم الجرأة بأن يكتبوا يومياتهم ومذكراتهم ويشاركونها.
ومن المعلوم أن العديد من الاتجاهات البحثية والإنثروبولوجية اليوم، تولي المذكرات اهتماما غير مسبوق، لما تحويه من عرض مباشر لحياة الناس وتحولاتهم، عبر الإصغاء لحكاياتهم وانطباعاتهم عن أحداث خاصة وعامة، وهم يغوصون في تفاصيلها الدقيقة.
وتختلف المذكرات التي يكتبها أصحابها، باختلاف قدرتهم على البوح والكلام الصراح، وربما عاب العديدون على مذكرات لا يبدو من صاحبها إلا الشطر الأجمل والأكمل من حياته، خلافاً لما تجري عليه الأمور عادةً، فلا تكاد تخلو حياة إنسان ممن عملوا أو كتبوا بالشأن العام من أخطاء وكوارث في معظم الأحيان، ولا سيما ممن اشتغل منهم بالسياسة والمال، والشأن العام.
في هذا الكتاب نجد باقة ثرية بتنوعها تجمع قادة وسياسيين وكتابا وناشرين وصحفيين وشخصيات أخرى، فهنا سنسمع المبعوث الأميركي إلى أفغانستان زلماي خليل زاده متحدثا عن وقائع ما كان لها أن تظهر للعلن لولا مذكراته (السفير. رحلتي من كابول إلى البيت الأبيض عبر عالم مضطرب). سنعرف الكثير عن هيلاري كلينتون زوجة الرئيس الأميركي السابق، والمرشحة إلى منصب الرئاسة، وسنمضي ليالي بيضاء مع حمدي قنديل ورياض الريس ووليد سيف، وسيحدثنا شفيق الغبرا عن (حياة غير آمنة: جيل الأحلام والإخفاقات) وغيرهم كثير، ممن عرفنا أسماءهم أو بعضاً من صفحاتهم وأعمالهم، لكننا لم نقف على تلك التفاصيل الغنية والمدهشة في كثير من الأحيان، مما عاشوه وشاركوه معنا في هذه اليوميات.
الأنس بالراحلين والركون إلى كتب التاريخ، آلية مطروقة للفرار من زحام التفاصيل اليومية التي تسحق إنسانية الإنسان وتعصف بروحه وتشتتها، وها هو صاحبنا محمد عبد العزيز يفر إليها هاربا من زحام إسطنبول ومواصلاتها وأنفاقها المزدحمة دائماً، ليجد في مجالسة هؤلاء الراحلين أنساً وسلوانا ومعينا ثراً يغنيه ويمتعه، وهو إذ ينحو لهذا الخلاص الجميل لا يضن علينا بما تكتنزه تلك المذكرات من تجارب غنية وخبرات تتراكم، فيكثفها ويوجزها ليشعل بنا حماسة كافية للعودة إلى تلك المظان، وهو إذ يبذل جهداً كبيراً في تكثيف تلك المذكرات واختصارها، إلا أنه لم يكن ليتوهم أبداً أن المذكرات واليوميات يمكن اختصارها أو تلخيصها، إنما يمكن عرض جوانبها المدهشة أو المثيرة ليدفع قارئه إلى العودة إليها.
والحقيقة إن الاشتغال بعالم المذكرات يقدم لنا علاوة على ما تحمله من تأريخ حر، غير مقيد بمدرسة معينة أو بسلطة ما، كما جرت سنة العديد من المؤرخين، يتيح لنا العيش في تلك العوالم المتنوعة والتعرف إليها بشكل حياتي كما عاشها أصحابها.
يربط كاتبنا بين روحه في الكتابة وبين عالم ألف ليلة وليلة، عالم من السحر والإثارة والحكايات التي لا تنتهي
وليست حياة الكتاب الكبار أو العظماء أو السياسيين وحدها من تقدم لنا كل هذا، فحياة جندي في الجيش العثماني، أو طباخ في الشام، أو تاجر يمني سار بتجارته من اليمن إلى ماليزيا والصين أو إلى مجاهل أفريقيا، كل هذا يكمل المشهد ويقدم تأريخاً عن حياة الإنسان في أزمنة وأمكنة وثقافات مختلفة، ويا له من تنوع غني.
ويربط كاتبنا بين روحه في الكتابة وبين عالم ألف ليلة وليلة، عالم من السحر والإثارة والحكايات التي لا تنتهي، فهو يستمع الى هؤلاء المتحدثين غالباً في أكناف الليل، كما كانت شهرزاد تحكي الحكايات، وقد عكف على هذا العمل عامين يقلب الصفحات وينتخب الحكايات ليقدمها لقارئه مادة يصعب الانصراف عنها، بل ربما تمنى الكثيرون وأنا واحد منهم أن يستمر هذا الجهد ليقدم لنا موجزات يصعب الإحاطة بها، وقد ذكرني هذا الكتاب ببرنامج إذاعي يقدمه "وفيق مازن" من إذاعة صوت العرب من القاهرة في ثمانينيات القرن المنصرم واسمه "قرأت لك" وهو يقدم عبره يومياً وخلال خمس عشرة دقيقة قراءةً لكتاب نشر حديثاً.
ويصف محمد عبد العزيز هذا الكتاب، بأنه أوراق سيرته كقارئ لا يفتأ يبحث عن ضحاياه الجدد كل يوم، وربما راسل صديقاً في أقصى الأرض ليوفر له نسخةً من مذكرات قديمة سمع عنها، وقد قدم في هذا الكتاب عرضاً موفقا لما ينوف على أربعين سيرة ذاتيه متنوعة، تمتع قارئها.
الكتاب: الأنس بالراحلين "أمسيات مع السير الذاتية"
الكاتب: محمد عبد العزيز الهجين
من إصدار "دار مدارات للأبحاث والنشر" 202