لا بد لكلّ بلد في هذا العالم من روائي يبني له ظلَّه الإنساني على مدار عقودٍ وروايات، فيصير الروائي، في هذه الحالة، معمارياً يبني وطنَهُ، ولكن ليس بالحجارة، وإنما بالروايات.
ثمّة تجارب روائية عالمية لا يمكن فصلُها عن الأوطان التي كُتبت فيها. ويمكن اعتبار هذه التجارب شكلاً من أشكال النضال الإنساني لتلك الأوطان، في مرحلة تشكلها في العصر الحديث.
يحلو لي، بوصفي قارئاً من النوع الجيد للروايات العالمية، أن أسمي هذه التجارب بـ الأعمال الروائية الكاملة للأوطان.
بعض الروائيين في العالم ولدوا مطلع القرن الماضي، القرن الذي تشكلت فيه أغلب دول العالم بعد نيلها استقلالها من الاستعمار، وقد عايش أولئك الروائيون مرحلة استقلال أوطانهم، والمراحل التي تلتها من بناء للدولة والمجتمع، وبعض الحروب التي خاضتها أوطانهم على الصعيد الداخلي والخارجي.
وعلى المدى البعيد ومن خلال تتالي رواياتهم، استطاعوا أن يوثقوا مجموعة المتغيرات التي مرت فيها أوطانهم، متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية، إلخ، وظهور طبقات جديدة واندثار طبقات أخرى.. غروب نظريات وبداية نظريات أخرى، لتكون رواياتهم انعكاساً لحال أوطانهم، لدرجة أننا إذا أردنا أن نقرأ التاريخ الاجتماعي لهذه الأوطان بمفهومه الإنساني، علينا بقراءة هذه التجارب الروائية، التي تشكل مدخلاً مهماً لمثل هكذا قراءات. وتكاد تكون هذه التجربة الروائية أو تلك، لهذا الروائي أو ذاك، ظلاً لا ينفصل عن جسد وطنه، حيثما يذهب الوطن، تطارده الروايات وكأنها ظل له.
تكون رواياتهم انعكاساً لحال أوطانهم، لدرجة أننا إذا أردنا أن نقرأ التاريخ الاجتماعي لهذه الأوطان بمفهومه الإنساني، علينا بقراءة هذه التجارب الروائية
الكثير من قراء الروايات في العالم، يعرفون أنه لولا روائيٌّ معين لما عرفوا شيئاً عن بلاد معينة، بل إن بعض هذه التجارب الروائية عرفتنا على أوطان ما كان لنا أن نعرفها في الأحوال الطبيعية، ليس فقط التعرف على تلك الأوطان جغرافياً، وإنما على مجموعة الظواهر الاجتماعية فيها، والمتغيرات التي عبرتها خلال القرن الماضي، قرن نشوء الدول الحديثة. وقرن نشوء التجارب الروائية التي شكلت ضمير أوطانها وضمير شعوبها.
فمثلاً، ماذا كان بوسعنا أن نعرف عن دولة تقع في آخر الدنيا مثل غواتيمالا، وعن شعبها وتاريخها الحديث، عن أفراح هذه الدولة ومآسيها، عن أبطالها وديكتاتورياتها، لولا تجربة الروائي الغواتيمالي ميغل أنخل أستورياس الذي ولد في غواتيمالا عام 1899 وتوفي عام 1974 بعد أن ناضل وكافح مع آخرين في سبيل وطن أفضل من الذي ولدوا فيه، وقد كتب مجموعة روايات عن بلاده، لعلّ أهمها "السيد الرئيس" و "البابا الأخضر" ولطالما كانت رواياته تدور حول معاناة شعبه اقتصادياً وسياسياً، مما أدى منذ بداية تجربته الروائية لأن يتعرض للنفي.
وحتى الدول القريبة منا التي نتقاسم معها ماضياً وحاضراً مشتركين مثل مصر، قد يخيل إلينا أننا نعرف كل شيء عنها، ولكن، هل كان بإمكاننا أن نعرف عنها تلك التفاصيل الاجتماعية المدهشة لأبنائها، لولا رواياتُ نجيب محفوظ؟ وقد لا أبالغ إذا قلتُ أن بعض المصريين قد يعرفون تفاصيل معينة عن القاهرة في العهد الملكي من خلال روايات نجيب محفوظ، لا من خلال كتب التاريخ المصري، تماماً مثل حالي، كسوري، عندما أعرف عن المشكلات الاجتماعية أو الصراع الطبقي في بيئة محلية، مثل بيئة اللاذقية منذ عقود طويلة، وذلك من خلال روايات السوري حنا مينة، لا من خلال كتب التاريخ السوري.
وقد لا أبالغ إذا قلتُ أن بعض المصريين قد يعرفون تفاصيل معينة عن القاهرة في العهد الملكي من خلال روايات نجيب محفوظ
ومن تركيا لدينا الروائي يشار كمال، الذي جاءت رواياتُه خلال حياته الطويلة مرافقة لنشوء الدولة التركية الحديثة على يد مصطفى كمال أتاتورك، لتعبر عن معاناة الناس في هذه المكان من العالم، وكانت رواياته نسخة إنسانية عالية الصوت لمشكلات الأرياف التركية والناس المهمشين، الذين يعيشون فيها أقداراً سيئة، كما هول الحال في رواياته "محمد يا صقري" و "جريمة في سوق الحدادين".
من أفريقيا لدينا عدة تجارب مهمة، خصوصاً أن هذه القارة كانت معاناتها خلال القرن الماضي، والقرون السابقة، أكبر من معاناة بقية القارات.
الروائي الكيني نغوجي واثيونغو صاحب كتاب "تصفية استعمار العقل" وروايته الشهيرة "تويجات الدم" ورواياته الأخرى، التي نقرأ فيها نضالات الشعب الكيني وتاريخه في مرحلة ما بعد الاستقلال، والصراعات الداخلية التي عصفت بهذه البلاد، إضافة لمعاناة كينيا وغيرها من دول أفريقيا ودول العالم الثالث من إرث الاستعمار.
بالمقابل، يُخيل لي، أن قارئاً ما، في مكان بعيد من هذا العالم، من أمريكا اللاتينية مثلاً، أو من جنوب غرب آسيا، لديه الكثير من المعلومات عن سوريا.. ولكنه لم يحصل على معلوماته هذه من كتب التاريخ، إنما، من الوارد جداً أنه حصل عليها من روايات حنا مينة بعد أن قرأ ترجمتها إلى لغته، لأن التجربة الروائية الكاملة لـ حنا مينة، هي بشكلٍ أو آخر.. التاريخ الحديث للسوريين، تاريخ أحلامهم وأحزانهم ومعاناتهم خلال جيلين أو ثلاثة أجيال، تاريخ انتصاراتهم ومآسيهم، على اختلاف أديانهم وطوائفهم وقومياتهم.