يرجع العنف ليضرب بقوة مدينة إدلب مجدداً، والتي لا تكاد تمر عليها أيام عدة دون تفجير هنا أو هناك، يستهدف بالدرجة الأولى حياة المدنيين الأبرياء، وعلى الرغم من أن هذه التفجيرات قد تناقصت قليلاً في الأشهر الأخيرة، عما كانت عليه سابقاً، إلا أنها ما تزال خطراً حقيقياً يجثم بثقله على صدور الأدالبة والنازحين سواء، حتى إن خطر السيارات المفخخة والعبوات الناسفة صار هاجساً يومياً عند الأهالي، إلى درجة أنه عندما يخرج المرء لقضاء حاجة على وجه السرعة، لا يعرف إن كان سوف يرجع سالماً أو لا، و عند عبوره لشارع ما، لا يعرف إن كان سوف يخرج منه على قيد الحياة أو بقايا جثة على نقالة الإسعاف.
الأخبار القادمة من إدلب تتحدث عن تفجير مزدوج بسيارات مفخخة حدث في شارع القصور يوم الإثنين الماضي 18 شباط، مخلفاً عشرات الضحايا بين قتيل وجريح.
وبينما يؤكد البعض إصابة "الجولاني" شخصياً في هذا التفجير أو أحد قادته إلا أن هذا مستبعد، لأن "الجولاني" وبقية قادته، وبحكم عقليتهم وطبيعتهم الأمنية المتطورة، بوصفهم إفرازاً سيئاً من إفرازات العقلية الأمنية لتنظيم الأسدين ــــ حافظ وبشار ــــــ، لا يمكن أن يتجولوا في وضح النهار بأحد الشوارع الرئيسية في المدينة، بل أكاد أكون متأكداً أنهم لا يتجرؤون على دخول مدينة مثل إدلب، وبأفضل الأحوال قد تقتصر إقامتهم وتحركاتهم على الرغم من ندرتها، على قرى ومزارع بعيدة لضروراتهم الأمنية الخاصة بهم.
تفجيران متتاليان أسقطا عشرات الضحايا بين شهيد وجريح في شارع القصور، الذي يُعدّ أحد أكبر شوارع مدينة إدلب، متوسطاً حي القصور المعروف بهدوئه
هذا الحي الذي عشتُ فيه سنوات طفولتي ومراهقتي، تغير شكله كثيراً في سنوات الحرب، فبعدما ظل في السنوات الأولى للثورة السورية مربعاً أمنياً للنظام، لاحتوائه على مراكز أمنية وحزبية مهمة، سرعان ما تحول بعد آذار 2015 عند دخول ما يسمى "جيش الفتح" إلى إدلب، إلى مركز رئيسي للمجاهدين الأجانب وعائلاتهم.. ومن وقتها تفنن النظام بقصف هذا الحي تحديداً، ويضاف إلى هذا عشرات التفجيرات، التي يبدو أنها كانت تستهدف بعض المسؤولين من الدرجة الثانية في فصائل المتطرفين، ولكن على يد إخوتهم بالمنهج ذاته، ضمن تصفيات دموية بين بعضهم البعض، في صراعٍ على النفوذ.
قصف طائرات وآليات النظام، مع تفجيرات المجاهدين ببعضهم، قتلت في هذه السنوات عشرات وعشرات المدنيين وهجرت الآلاف، وغالباً ما كان ينجو المجاهد الأجنبي، وكأن ثمة تعويذة سحرية سرية تحميه، ولا تحمي الأهالي من مدنيين ونازحين.
يحدث كل هذا وسط فلتان أمني تتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى هذه الفصائل، التي لم يقتصر تنكيلها على البشر وإنما وصل للحجر والأشجار، وبهذا لا تختلف بشيء عن النظام، وكأن القدر استبدل النظام بها ليصير الحال من سيء إلى أسوأ..
في الوقت ذاته، يُترك أهل إدلب مع مئات الألوف من النازحين لحاضر أسود ومصيرٍ غامض، وتتحول إدلب إلى ورقة سياسية رابحة تارة، أو ورقة ضغط، أو ورقة مقايضة، تارة أخرى، بين القوة الدولية، من إيران وروسيا وأميركا وتركيا، وصولاً إلى النظام السوري.
يتحمل "الجولاني" وإخوته في المنهج من الفصائل الأخرى، وبقية "الإخوة الأعداء"، من روسيا وإيران والنظام السوري وميلشياتهم، بتشويه الحياة والمكان والإنسان في هذه المدينة.
ما أزال أتذكر حي القصور، في مرحلة ما قبل توافد المجاهدين الأجانب مع عائلاتهم إليه، ومرحلة ما قبل تحويله على يد النظام إلى مربع أمني
ما أزال أتذكر حي القصور، في مرحلة ما قبل توافد المجاهدين الأجانب مع عائلاتهم إليه، ومرحلة ما قبل تحويله على يد النظام إلى مربع أمني، الحي الجميل بشوارعه الكبيرة والمنظمة، بحدائقه الكثيرة، بفيلاته القديمة وأبنيته الحديثة الجميلة، بحدائقه المنزلية العديدة ذات الأشجار الكثيفة والعالية، التي اعتنى بها أصحابها عبر جيلين من الزمن، لتصير هوية جمالية خاصة بكل عائلة.
إدلب التي الآن في خيالي ليست هي ذاتها واقعياً، تغيرت كثيراً منذ أن غادرتها مع جزءٍ كبير من سكانها منذ سنوات، هذه المدينة للأسف تم تشويهها ولم تعد هي نفسها...
بحسب الاتصالات الدائمة التي تجري بيني وبين بعض المعارف في إدلب خلال السنوات الماضية، من أولئك الذين بقوا فيها، أنتبه إلى أن طبيعة حياتهم واهتماماتهم تغيرت، فسنوات من الدمار والحصار والقصف، وسنوات من شوارع مليئة بالظلاميين الملثمين الأجانب، أدت إلى اختفاء أماكن وتغير معالم كثيرة، وأنماط حياتية.
يحكي لي أحدهم، أنه بعد زوال أبنية بسبب القصف والتفجيرات، وردم شوارع، باتت الطرقات التي كنا نعبرها بين الأمكنة في طفولتنا مختلفة تماماً عن الطرقات الآن، قد يضيع أحدنا الآن في إدلب، إن رجع إليها بعد سنوات الحرب.
وأولئك الذين فضلوا البقاء بها لضيق الحال تغيروا، الكوارث التي خلفتها سنوات الحرب، ومحاولة التأقلم مع المتطرفين، أجبرت الناس مع مرور الزمن على تغيير الكثير من تفاصيل حياتهم اليومية، ومع مرور الأيام تغير الإنسان رويداً رويداً، وتحول بفعل هذه المأساة إلى إنسان مرهق ومتعب، إلى كائن غريب عن مكانه محيطه، يبدو وكأنه قد جاء من كوكب آخر. إلى درجة يخيل لي فيها، أننا إن عدنا يوماً إلى إدلب، سوف نحتاج إلى بذل جهود كبيرة، حتى نندمج مع أهاليها.
إدلب التي صارت الآن، وكأنها من كوكب آخر.