icon
التغطية الحية

الأطفال السوريون ومعضلة الاندماج في أوروبا.. هل تتلاشى الهوية؟

2024.06.30 | 15:33 دمشق

Syrian children in the Netherlands
يواجه الأطفال السوريون في أوروبا تحديات كبيرة في التكيّف مع النظم التعليمية الجديدة ـ CBS
هولندا ـ آلاء عوض
+A
حجم الخط
-A

يواجه الأطفال السوريون في أوروبا تحديات كبيرة في التكيّف مع النظم التعليمية الجديدة بسبب الفروق الثقافية واللغوية، وتُفاقم السياسات الحكومية في بعض الأحيان من هذه التحديات بتركيزها على الاندماج بطرق قد تُقيّد التعبير عن الهوية الثقافية للأطفال.

وعلى الرغم من مرور عقد من الزمان على استقرار السوريين في أنحاء متفرقة من أوروبا، إلا أن بعض التحديات القائمة لا تزال تواجههم. وبحسب بعض الأهالي، فإن الحلول التي تم اعتمادها لتجاوز هذه التحديات قد يكون لها عواقب خطيرة، مشيرين إلى أن "ما حققه الأطفال من تقدّم قد لا يمثل اندماجًا حقيقيًا بقدر ما هو انعزال عن هويتهم الثقافية والاجتماعية"، وهو ما قد يؤثر بالسلب على مستقبلهم وإحساسهم بالانتماء.

وتفيد "هيومن رايتس ووتش" بأن الأطفال اللاجئين يواجهون أخطارًا عالية من الصدمات النفسية والتهميش، وغالبًا ما يعانون صعوبات في الاندماج كما أنهم يتعرضون في المدارس للتمييز وأحيانًا للعنف من قبل الأقران، مما يؤدي إلى تحديات كبيرة في التحصيل الدراسي والتكيّف الاجتماعي.

حلول هشة

قالت لي سارة: "احتجنا للاستعانة باختصاصية سلوك في البداية، لأن ابنتي ذات الـ 9 سنوات كانت منطوية على نفسها في المدرسة، ترفض التحدث أو التواصل مع زملائها الهولنديين، وتأبى تكوين علاقات معهم، تبدو خائفة ومنعدمة الثقة".

سارة امرأة سورية في عقدها الرابع وتعيش مع أسرتها في هولندا منذ ما يقرب من 5 سنوات. تبدو قوية الشخصية، تتحدث اللغة الهولندية بطلاقة وتعمل مع منظمة رفيعة مهتمة بشؤون اللاجئين، وعملها أيضًا ذو شأن ضمن المؤسسة. سألتها باستغراب: "لا يبدو أنكِ تواجهين مشكلات أنتِ وعائلتك، على العكس تبدين منسجمة كثيرًا مع المجتمع، وحظيتِ بفرصة عمل ممتازة". أجابت: "واجهنا الكثير من التمييز والتهميش. ابنتاي، 11 عامًا و9 سنوات، تعرّضتا للتنمر في بعض الأوقات، لكن مكوثنا لسنوات هنا ساعدنا في تطوير آليات دفاعية للتأقلم، مثل عدم الاهتمام بنظرات الاستخفاف أو التعليقات العنصرية، ومحاولة 'تجاهل وتطنيش' كل ما كان يشكّل لنا في البداية مصدر إزعاج أو قلق وحساسية. فالأوروبيون مزاجيون وقد يتعاملون أحيانًا بطرق غريبة. المهم ألا يكترث اللاجئ بكل المواقف وأن يفرّغ ما سمعه في الأذن الأولى من الأذن الثانية".

ذكّرني حديثها بمكالمة مع أحد الأصدقاء في فرنسا، حين قال: "علينا نحن السوريين أن 'نثخّن جلدنا'، ونخفّف من الحساسية تجاه المواقف العنصرية في بلاد اللجوء"، مؤكداً أنه طوّر أيضًا هذه الآلية وعلّمها لأبنائه، وهو يشعر بفضلها أن وضعه أحسن. وتساءلتُ حينها إن كان ذلك هو حلّ حقيقي فعلاً أم رغبة بالهروب من المواجهة.

سارة، بصفتها ناشطة وأماً، ترى أن التكيّف مع البيئة الجديدة يتطلب قدراً كبيراً من الصبر والمرونة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بأطفالها. تحكي عن تجربتها في تعليم بناتها كيفية الاستجابة للتنمر بطريقة تحافظ على كرامتهن وتزيد من ثقتهن بأنفسهن. "الأهم هو تعليم الأطفال كيفية الدفاع عن أنفسهم بطرق إيجابية وhgتأكيد أن تجاربهم السيئة لا تعكس قيمتهم الحقيقية كأشخاص". وبينما تشير سارة إلى التقدم الذي حققته مع أسرتها، لا تُخفي قلقها على مستقبل بناتها في مجتمع قد لا يفهم دائماً تحدياتهن كأطفال لاجئين. "أحاول أن أزرع فيهن حب الذات والفخر بأصولهن السورية، بالرغم من أن المجتمع هنا قد لا يقدّر دائماً هذه الهوية".

على الجانب الآخر، يشارك أحمد، وهو أب سوري يعيش في السويد، وجهة نظر مماثلة ويوضح لتلفزيون سوريا: "الحياة هنا ليست سهلة دائماً للاجئين، وخاصة لأطفالنا الذين يحاولون فهم مكانتهم في هذا العالم المعقّد. نحن نواجه تحديات يومية في كيفية الحفاظ على ثقافتنا بينما نحترم ثقافة البلد الجديد". يؤكد أحمد على أهمية الحفاظ على التواصل مع الجذور الثقافية والتربوية للأطفال: "أشجّع أطفالي على التحدث بالعربية في المنزل وأشركهم في الأعياد والتقاليد السورية. أعتقد أن فهمهم لأصولهم يساعدهم على بناء هوية متوازنة وثقة بالنفس".

تناقض تربوي

في أول جلسة تدريب حضرتُها حول قواعد تربية الطفل في هولندا، تحدثت المُحاضرة عن أخطار تعرّض الأطفال لتناقض كبير بين البيت والمدرسة، وأكدت أن أي تضارب واضح وشديد مع قيم المدرسة يثبت تأثيره على الطفل، يخوّل التربويين الهولنديين gلتدخل لصالح قيم المدرسة. مضيفةً: "أنتم الآن تعيشون في هولندا، وسيتابع أبناؤكم حياتهم في هذا البلد، لذا ينبغي عليكم عدم التشويش عليهم".

تتجلى التحديات التي تواجهها الأسر السورية في أوروبا بشكل أساسي في التضارب الكبير بين القيم الثقافية والتربوية في البيئتين المنزلية والمدرسية. غالبًا ما يجد الأطفال أنفسهم محاصرين بين متطلبات الاندماج الثقافي التي تفرضها المدارس والمجتمعات الأوروبية وبين الحفاظ على الهوية الثقافية والتقاليد التي يحملونها من بلدانهم الأصلية والتي تكون أحيانا "شفاهية". هذا التناقض يمكن أن يؤدي إلى حالة من الصراع الداخلي لدى الأطفال، حيث يكافحون لفهم مكانتهم وهويتهم في عالم يبدو أنه يسحبهم في اتجاهين متعاكسين. الاندماج الناجح، في هذا السياق، لا يتطلّب فقط تعلّم لغة جديدة والتكيّف مع نمط حياة مختلف، بل يشمل أيضًا التعامل مع التحديات النفسية والاجتماعية التي تنشأ عندما تتعارض القيم الأوروبية مع القيم الثقافية للأسرة.

كما يواجه الأطفال السوريون في أوروبا عقبات في التحصيل الدراسي نظرًا لأن النظام التعليمي قد لا يأخذ في الاعتبار خلفياتهم الثقافية والتعليمية، مما يؤدي إلى تجارب تعليمية محبطة قد تؤثر على ثقتهم بأنفسهم وتطورهم الأكاديمي وتعزّز شعورهم بالعزلة والاغتراب عن المجتمع الأوسع. ويؤكد بعض الأهالي أن الأطفال الذين ينجحون في التغلب على هذه التحديات قد يجدون أنفسهم مضطرين إلى التنازل عن بعض الجوانب من هويتهم الثقافية ليتم قبولهم، وإلا فإنهم سيستمرون في مواجهة الإقصاء والتهميش داخل مجتمعاتهم الجديدة.

إياكم والعربية!

يعكس القلق من التواصل باللغة الأم بين الطلاب السوريين عمق التحديات الثقافية واللغوية التي يواجهها الأطفال السوريون في أوروبا. كثيرًا ما يُنظر إلى استخدام اللغة العربية في المدارس والأماكن العامة بنوع من الريبة أو الشك، مما يضع الأطفال تحت ضغط مستمر لإخفاء جزء أساسي من هويتهم. يمكن لهذا الوضع أن يؤدي إلى مشاعر من العزلة والانفصال عن جذورهم الثقافية، خاصة عند الأطفال الذين يحاولون التوفيق بين رغبتهم في الاندماج في المجتمع الجديد وحاجتهم للحفاظ على ارتباطهم بثقافتهم الأصلية.

مع مرور الوقت، قد يتسبّب هذا القلق في تراجع الأطفال عن استخدام لغتهم الأم في الأماكن العامة، مما يؤثّر على قدرتهم على التعبير عن أنفسهم بشكل طبيعي ويزيد من صعوبات التواصل مع العائلة والأصدقاء الذين يشاركونهم نفس الخلفية الثقافية. يعاني الأطفال بالتالي من تضارب الهوية، حيث يشعرون بأن عليهم التخلي عن جزء من ذاتهم لكي يُقبلوا من قبل أقرانهم ومعلميهم. وليس مستغرباً أن ينسى بعض الأطفال تعبيرات مهمة باللغة العربية ويطلبون من أهاليهم تذكيرهم بكلمة ما في سياق حديث معين.

"كانت آنسة ابنتي قلقة جدًا من تواصل ابنتي مع زميلتها اليمنية باللغة العربية أثناء الاستراحة، وكانت على وشك طلب مساعدة من متخصص نفسي لحثّها على التحدّث بالهولندية فقط. كان لدي رغبة في إيصال رسالة لها أن الأطفال يعيشون حالة حنين للغتهم ويرغبون بالتواصل عبرها ولو بطريقة خاطفة، ذلك يشعرهم بالأمان. لا داعي لطلب استشارة نفسية فالأمر طبيعي جداً! لكنني ترددتُ وخشيتُ من أن يتم فهمي بطريقة خاطئة أو بأنني أدفع ابنتي للابتعاد عن لغة البلد المضيف". مقتطف من حديث دار مع إحدى السيدات في هولندا.