في أيار 2023، زادت التوقعات بحدوث هجمة أوكرانية مرتدة طال انتظارها، بعد وصول الرئيس فولوديمير زيلينسكي إلى السعودية، إلا أن تلك كانت محطة قصيرة في أجواء السعودية الحارة، قبل التوجه إلى اليابان بمناخها المعتدل، حيث رحب به قادة دول مجموعة السبع في مدينة هيروشيما، غير أنه ناشد المؤتمرين من الدول في القمة العربية ليفهموا نضال بلده على حقيقته، أي كحرب تهدف إلى الإبقاء على وجود الدولة، وبذلك نشر زيلينسكي بذور الشك في أرجاء القاعة، خاصة عندما قال: "إنني على يقين أنه بوسعنا التوحد جميعاً لإنقاذ الناس من أقفاص سجون روسيا، ولكن للأسف، هنالك بعض الأشخاص في العالم، وبعضهم هنا بيننا، يغضون الطرف عن ذلك".
تاريخ روسيا مع الهجمات الكيماوية وتبريرها
كان ذلك المسمار الذي لم يخف على أحد موجهاً بلا شك ليُدق في رأس أحد الرؤساء على وجه الخصوص، وهو طبيب عيون سابق تحول إلى ديكتاتور، أي بشار الأسد، وذلك لأن ظهور الأسد على الصعيد الدولي في قمة الدوحة ذكرنا بذكرى مرعبة، وهي أن أحد أفضل عملاء روسيا قد نجا من المحاسبة على ما سببه من ألم ومعاناة لشعبه خلال العقد الماضي، إذ استراتيجياً، نشأ العنف المادي والمعنوي الذي تكيله روسيا لأوكرانيا اليوم من خلال التدخل الروسي في الحرب السورية، حيث تعرض الآلاف من المدنيين والمئات من الأطفال بينهم لهجمات بالسارين والكلور وغيرها من الأسلحة الكيماوية، كما تعرضوا لهجوم آخر تم بأبشع أشكال التضليل الإعلامي وأحقرها، وذلك عندما ذكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام دبلوماسيين غربيين في ذلك الحين بأن الأسد غير مسؤول عن تلك الحوادث، وألمح إلى احتمال تمثيل المدنيين لذلك الهجوم وأعراضه.
في أواخر عام 2022، في الوقت الذي بقي فيه الغزو الروسي لأوكرانيا مستمراً، عاود شبح الأسلحة الكيماوية الظهور في الشرق الأوسط، إلا أن الضحايا هذه المرة كانوا معارضين لعميل إقليمي آخر لدى روسيا، ألا وهو إيران. لذا، وعلى مدار بضعة أشهر، أصيب الآلاف من فتيات المدارس بإيران بالمرض في مختلف أنحاء البلد ضمن موجة هجمات كيماوية استهدفت النساء والأطفال المطالبين بإنهاء عصر القمع بعد مقتل مهسا أميني ذات الاثنين وعشرين ربيعاً. وفي الوقت الذي اتضح فيه بأن هذه الحملة اعتمدت على استخدام عناصر أضعف فتكاً من تلك التي رأيناها في سوريا، سرعان ما ترسخ أمامنا نمط مماثل لإنكار الجريمة والإفلات من عقوبتها، إذ ذكر مسؤولون بأن فتيات المدرسة لم يتعرضن للتسمم، بل أصابهن مس من الجنون بكل بساطة، أو أنها مؤامرة خططت لها قوى أجنبية، ولهذا فإن أي تحقيق دولي بالأمر غير مرحب به.
كاريكاتور يظهر بوتين وهو يسمم نافالني يحمله أناس محتشدون في بولندا دعماً لهذا السياسي الروسي المعارض
تاريخ روسي طويل مع تسميم المعارضين
وفي تلك الأثناء، مايزال الرجال الروس الذين استهدفوا ضابط المخابرات العسكرية السابق سيرغي سكريبال وابنته يوليا بغاز الأعصاب الذي يتسم بسميته الشديدة يعيشون حياة ميسرة سعيدة. كما سُمم أليكسي نافالني الذي عارض بوتين لفترة طويلة، وذلك في عام 2020، وبقي هناك ليذوي في السجن بعيداً عن الناس، والشي نفسه حدث للمعارض فلاديمير كارا-مورزا، الذي أنهك قواه نوعان مختلفان من السموم في عام 2015 وعام 2017. الأمر نفسه وقع لرئيس جورجيا السابق، الذي سبق لبوتين أن قال عنه بإنه يجب أن: "يشنق من خصيتيه"، ومنذ ذلك الحين عثرت على كميات مضرة بالصحة من المعادن الثقيلة في دمه ما تسبب له بمعاناة مزمنة.
عندما سعت أوكرانيا بادئ ذي بدء للابتعاد عن محور روسيا في عام 2004، تم تسميم أول رئيس لها موال للاتحاد الأوروبي، واسمه فيكتور يوشتشينكو، بمادة سامة تستخدم في الحروب البيولوجية. والآن، في الوقت الذي تتعرض فيه أوكرانيا لغزو شامل، تتواصل عمليات التسميم تلك المشكوك بأمرها والمؤكدة على حد سواء بحق معارضي الكرملين. إذ في أواخر عام 2022، بدأت صحفية روسية معارضة تخسر شعر رأسها وهي ماتزال في الثانية والثلاثين من العمر بعدما تعرضت للتسميم بمادة ثاني كرومات البوتاسيوم. كما مرض العديد من المعارضين الروس الساعين للتخطيط لمرحلة روسيا ما بعد بوتين، وظهرت عليهم أعراض تشبه أعراض التعرض لغاز الأعصاب، وذلك خلال اجتماع لهم في برلين. أما نائب وزير العلوم والتعليم العالي بروسيا، الذي أبدى تذمره منذ فترة قريبة من سياسة روسيا في أوكرانيا، فقد توفي فجأة وهو على متن طائرة كانت تحمله فوق كوبا. ومؤخراً، زعم أصدقاء أليكسي نافالني بأنه تعرض للتسميم للمرة الثانية في أثناء مكوثه في السجن.
تسميم الأراضي الأوكرانية
في عام 2023، تعرضت القوات الروسية لهجمة أوكرانية مضادة حاسمة، فواجهنا نحن أيضاً احتمال نشر أسلحة كيماوية ضد الجنود أو المدنيين مرة أخرى. إذ في الوقت الذي كان فيه زيلينسكي يلقي كلمته في جدة، انتشر مقطع فيديو عبر الشابكة لاستخدام الفوسفور ضد الجنود المرابطين في مدينة باخموت المدمرة. كما رأى السكان ذخائر الثرمايت المحظورة في القانون الدولي لكونها سلاح مضاد للأفراد من الجنود، وهي تمطر مدينة خيرسون. وعقب تدمير سد نوفا كاخوفكا، حذرت المخابرات الأوكرانية من تزويد القوات الروسية لمصنع كبير للنشادر موجود بالقرم بالمتفجرات.
جهود واعدة لتحديد هوية الجناة
اجمتعت مؤخراً الدول الموقعة على اتفاقية الأسلحة الكيماوية في جنيف ضمن مؤتمر المراجعة الخامس، إلا أن الاجتماع كان محبطاً، بما أن روسيا وزمرتها المعتادة قطعوا الطريق أمام أي محاولة للمحاسبة على الحوادث التي وقعت في سوريا وغير سوريا. ولكن ثمة سبيل واعد يمكن النفاذ منه، ألا وهو العمل الذي يقدمه فريق التحقيق والتقصي الذي شكلته منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، فقد شكل هذا الفريق ليحدد هوية مرتكبي تلك الحوادث التي استخدمت فيها الأسلحة الكيماوية بسوريا، لكنه لم يُمنح صلاحيات ليحدد المسؤولية الجنائية للأفراد.
وثمة عمل يستحق الشكر والثناء قدمه فريق التحقيق لدى بيلينغكات والذي أثبت أنه يمكن أن يتحول إلى إضافة مفيدة لفريق التحقيق والتقصي، كما يمكن اعتماده كآلية مماثلة مستقبلاً. إذ بالاعتماد على المعلومات الاستخبارية المأخوذة من مصادر مفتوحة، تمكن محققو بيلينغكات مؤخراً من تحديد هوية الأفراد المسؤولين عن استهداف المناطق المدنية بصواريخ كروز بعيدة المدى في أوكرانيا. كما أجرت وكالات استخبارية العمل ذاته، وكذلك منظمات أكاديمية وحقوقية بهدف تحديد مسؤولية سلسلة القتل بالأسلحة الكيماوية التي اعتمدها نظام الأسد.
كانت المجموعة التي تضم أشخاصاً أطلقوا صواريخ كروز عبارة عن مجموعة غير محددة المعالم تضم أشخاصاً لديهم حسابات شخصية على وسائل التواصل الاجتماعي ويمارسون طقوس أيامهم بشكل اعتيادي وطبيعي. ومن الواضح بأن بيلينغكات ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية لا تمثلان أي جهة نيابية لها الحق بإلقاء القبض على هؤلاء الأفراد، ولكن بعد الإعلان عن هوية الفاعلين، من غير المرجح لتلك الشخصيات أن تقضي إجازاتها خارج البلد في المستقبل القريب.
وبالنسبة للأسلحة الكيماوية، فإن الوصول إلى هوية الأشخاص المسؤولين عن استخدامها قد يخلف أثراً رادعاً مماثلاً، إذ قد يقع هؤلاء في قبضة سلطة قضائية تعتبرهم خارج سيطرتها في الوقت الراهن، ولكن لعل لدى البعض منهم عقارات في لندن، أو أهل وأقارب في دول أخرى، أو زوجة تستمتع بالتسوق في باريس، لذا يمكن لنقاط الضعف هذه أن تخلق فرصاً للإمساك بهم مستقبلاً.
المصدر: The Interpreter