عرضت نتفلكس على مدى ستة حلقات وثائقية مسلسلا بعنوان "كيف تصبح ديكتاتورا" انطلاقا من مقولة صحيحة أن الديكتاتوريات تتعلم من بعضها تماما كما الديمقراطيات. ركز المسلسل على ست شخصيات رئيسية كتبوا بأفعالهم ما أطلق عليه المسلسل "كتاب الديكتاتورية" وهم هتلر وستالين وصدام حسين وعيدي أمين من أوغندا والقذافي وسلالة كيم أون سونغ في كوريا الشمالية، طبعا مع إشارات إلى تصرفات وعبارات من غيرهم من الديكتاتوريين الذين مروا على التاريخ.
في الحقيقة كان يجب إدراج الأسد في السلسلة إذ تنطبق على الأب والابن كلاهما كل الصفات والأفعال التي أشار لها المسلسل، بدءا من طريقة الوصول إلى الحكم ومن ثم تصفية المعارضين بطرق مختلفة كما فعل حافظ الأسد مع صلاح جديد والرئيس نور الدين الأتاسي، ثم زرع الخوف داخل الشعب عبر ممارسات الأجهزة الأمنية في التعذيب والقتل، وتحطيم فكرة القانون تماما في الحياة السياسية والاجتماعية فالأسد هو القانون وهو الحاكم بأمره.
لكن ما يدعو للتشاؤم في المقارنة أنه على طول فترات هؤلاء الدكتاتوريين فإن سنواتهم انتهت بكارثة على أوطانهم، وفي النهاية يقدم المسلسل تجربة كوريا الشمالية على الخلود الديكتاتوري حيث صنع التسلطية الجد ثم ورثها إلى الابن كيم إيل جون ومن ثم ورثها الحفيد كيم جونغ إيل، وذكر عددا من السمات التي مكنت هذه الأسرة من الحكم لفترة طويلة في كوريا الشمالية تكاد تتكرر ذاتها مع الأسد من حيث وراثة السلاسة الأسدية للدولة السورية عبر السيطرة الكلية ومن ثم الكذب والبروباغاندا الإعلامية ثم شيوع الخوف المطلق وتحريض السوريين ضد بعضهم البعض وتطبيق عزلة كاملة على الدولة من حيث الانخراط السياسي أو الاقتصادي من المجتمع الدولي وأخيرا تحويل الفقر المدقع الذي يعيشه الشعب إلى حالة ضعف معممة يعيشها الشعب من حيث عدم قدرته على التماسك أو التضامن في وجه الديكتاتورية.
كان يجب إدراج الأسد في السلسلة إذ تنطبق على الأب والابن كلاهما كل الصفات والأفعال التي أشار لها المسلسل، بدءا من طريقة الوصول إلى الحكم ومن ثم تصفية المعارضين بطرق مختلفة
فضلا عن ذلك تحلّت عائلة كيم كما عائلة الأسد بعدد من الصفات الفردية والشخصية التي مكنت كلتا العائلتين على الاستهتار الكامل بأرواح المدنيين ومصيرهم، فشعور المرء بالخجل أو الارتباك بعد ارتكاب فعل خاطئ أو العار الذي جلبه على نفسه وأسرته أو وطنه هو شعور طبيعي، وهو يترافق عادة مع ما يسمى الإحساس بالمسؤولية أو الشرعية الأخلاقية وبالتالي عند فقدانها نتيجة ارتكابه لخطأ ما فيشعر المرء أنه غدر بالمسؤولية وأنه فقد الشرعية التي أعطيت له على أمل أن يفعل ما كان يتوقع منه وهو الأفضل لنفسه وللناس، كل هذه المفاهيم تقريبا أصبحت جزءا رئيسياً مما يسمى اليوم تأثير الرأي العام ومحاسبة المسؤولين السياسيين الذين تبوؤا مقاعد رئيسية في الحياة العامة وبالتالي هم عرضة للنقد أكثر من غيرهم كما أن المسؤولية السياسية والأخلاقية التي تتوقع منهم وتنتظر منهم غالباً ما تكون أعلى وأكبر.
ولذلك نسمع باستمرار عن استقالة هذا المسؤول أو الوزير في الديمقراطيات الغربية بعد تصريحه بعبارة ما يشتم منها رائحة العنصرية أو أنه قام بفعل ما مناف لحقوق الإنسان أو حتى الأخلاق العامة أو ما دون التوقعات العامة مما يجب على هذا المسؤول القيام به، لقد تطورت هذه الثقافة وأصبحت جزءا رئيسيا من حملات الشفافية العامة والمحاسبة للمسؤوليين خاصة مع نمو وثورة وسائل التواصل الاجتماعي التي مكنت المواطنين أن يبدو رأيهم في كل صغيرة وكبيرة، أن يوثقوا المواقف والتصريحات ويعلقوا عليها، وبالتالي أصبحت مسألة المحاسبة العلنية أكثر سهولة وهي طورت بالمقابل الشعور بالمسؤولية والقيام بالاستقالة أكثر شيوعا ودورية كما وجدنا في بريطانيا مؤخراً وإسبانيا وحتى داخل بعض الدول العربية على مستوى الوزراء لكن ليس على مستوى قادة الدول.
أعتقد أن هذه الطريقة من أكثر الوسائل تأثيراً في الرأي العام وتشجيعاً لبناء ثقافة المحاسبة والمسؤولية ويجب تنميتها بإطراد وتعزيزها في الحياة العامة، لأنها تلعب دور برلمان الشارع، وفي الديمقراطيات الغربية أصبحت وسيلة مهمة لقياس الشعبية وبالتالي مؤشرا على الانتخابات المقبلة لا سيما أن فيس بوك وتويتر أصبحا جزءا لا يتجزأ من الثقافة الشعبية للمواطنين وترتفع مع ارتفاع نسبة التعليم في كل البلدان.
إذا أخذنا كل ذلك وقمنا بتطبيقه على سوريا اليوم، بكل تأكيد سوريا لم تكن منذ تسلّم حزب البعث السلطة عام 1963 بلداً ديمقراطيا وتحولت مع الأسد الأب والابن إلى ديكتاتورية شمولية شبيهة إلى حد ما بنموذج كوريا الشمالية اقتصادياً وسياسياً، ولذلك لن نتوقع أبداً أن يكون ردة فعل السياسيين السوريين كما هي في الديمقراطيات العريقة، ولكن، مع بدء الثورة السورية بدأت الفيديوهات من سوريا تتزايد وبعضها يحكي قصصا إنسانية ليست مسيسة بأي حال من الأحوال لكن بغاية التأثير على كل سوري مهما كان موقفه السياسي مؤيداً للنظام أم معارضاً له، خاصة إذا كانت هذه الفيديوهات تتعرض لقصص أطفال سوريين يدفعون ثمن حرب لم يكن لهم قرار في اتخاذها أو إعلانها.
خطاب الأسد الأخير في القسم يكرر العبارات نفسها التي ما فتئ يرددها على مدار العشر سنوات "إرهابيون"، "عملاء"، "السيادة الوطنية" كما بدت ملامح وجهه هي ذاتها، مزيج من البلاهة والإنكار وترديد الأكاذيب رغم معرفته بأنها ليست سوى ذلك، وهو تقريبا يدفعنا إلى سؤال يتعلق بعلم النفس السياسي لماذا لا يشعر الأسد بالعار من قراراته التي اتخذها والتي أوصلت سوريا إلى ما هي عليه اليوم؟
ربما تكون هناك تفسيرات كثيرة في علم النفس الاجتماعي أو السياسي، لكن القدرة على إنكار الحقيقة وإخفائها لسنوات طويلة يحتاج إلى مهارة من نوع خاص، ربما أخبره أحد مستشاريه أنه يجب أن يظهر قوة دائمة أن يتجنب لحظات الضعف البشرية الطبيعية والتي هي جزء من كل إنسان، ربما هذا المظهر يظهره بقوة أكبر أمام أنصاره ومحازبيه، ربما يدفع به إلى أن يكون مثالا عن النصر المرتجى وما إلى ذلك.
لكن بكل تأكيد الدمعة والألم باتا جزءا من بيت كل سوري حيث قتيل أو معتقل أو لاجئ أو فقير أو يتيم إلى ما لا نهاية، وبالتالي ربما يرغب السوريون في رؤية الدمعة أو الألم في عيون وبكلمات مسؤوليهم، لكن الأسد ربما يفضل الرأي الأول وهو بكل الأحوال متماش أكثر مع شخصيته.