بعد جولات عديدة من الزيارات العربية وتحركات التطبيع العربي مع نظام الإجرام في دمشق، ينطلق الأسد ببراغماتية منقطعة النظير على متن طائرة تجارية إيرانية بسرية تامة واحترازات أمنية مشددة في زيارة هي الثانية من نوعها إيرانياً والسابعة من نوعها خارجياً منذ اندلاع الثورة السورية، إلى طهران لعقد لقاءات منفصلة مع المرشد الأعلى والرئيس الإيراني، والتأكيد على مفهومين اثنين أحدهما سياسي والآخر اقتصادي.
أما المفهوم السياسي، كما يراه الإيرانيون على وسائل إعلامهم، هو أن العلاقات السورية الإيرانية غير قابلة للانفصام، وأن زيارة بشار الأسد إلى إيران دليل على تعزيز التحالف الإيراني السوري في الشرق الأوسط، وأن على العرب اللاهثين وراء تطبيع علاقاتهم مع الأسد أن يقبلوا به كما هو، بإيرانيته وجرائمه ووحشيته.
ويحتمل المفهوم السياسي أيضاً أن الأسد، الذي حاول خلال العامين الماضيين المناورة بين الحليفين الروسي والإيراني لكسب أكبر قدر من التنازلات، يريد أن يعيد تنظيم علاقاته مع إيران بعد أن أصبح موقف روسيا الدولي يواجه كثيرا من التغييرات والتحديات بعد غزو أوكرانيا.
رغم ذلك، لا يختلف اثنان على أن هذه اللقاءات الحميمية والمجاملات المتبادلة الواضحة في التصريحات الرسمية هي مؤشر على هذا التوجه السياسي الممتد منذ صعود نظام الخميني إلى السلطة في إيران، لكن ما تجب الإشارة إليه هو ما تم الحديث حوله أو التلميح إليه على الأقل في هذه الرحلة على المستوى المعلن (الاهتمام بمرحلة إعادة الإعمار في سوريا)، وهو ما ورد في تصريحات كل من خامنئي ورئيسي ووزير الخارجية الإيرانية أمير عبد اللهيان وبشار الأسد على حد سواء.
أي إنه رغم المجاملات والكلمات المنمقة في اللقاءات الرسمية، حملت تصريحات خامنئي رسالة مبطنة للأسد بأن أولئك الذين كانوا على الخطوط الأمامية ضد النظام خلال الثورة لا يمكن أن يكونوا شركاء أمناء في وقت السلم، وأن على الأسد البراغماتي، الذي يحاول أن يقبض بقوة على الفولاذ الإيراني وهو يحاول كسب الذهب العربي في نفس الوقت، ألا ينسى أن يضع إيران، الحليف العسكري في زمن الحرب، كحليف اقتصادي يتمتع بأولوية قصوى في عملية إعادة الإعمار القادمة.
وفي الحقيقة، يظهر هذا التوجه بشكل جدي في الزيارات العديدة لمسؤولي حكومة رئيسي الاقتصاديين والسياسيين إلى سوريا، بدءاً من زيارة رئيس مجلس شورى الملالي محمد باقر قاليباف، إلى زيارة وزير الصناعة الإيراني فاطمي أمين، وصولاً إلى زيارة وزير الطرق والتمنية الحضرية الإيرانية رستم قاسمي إلى سوريا، هذا بالإضافة إلى ثلاث زيارات لوزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان، وعدد كبير من زيارات الوفود الاقتصادية المختلفة في الأشهر القليلة الماضية إلى سوريا.
وللحفاظ على وجود مستدام في سوريا، تقوم الأولوية الإيرانية اليوم، إلى جانب الحفاظ على انتشار عسكري متنامٍ وتوسعي، على جعل شعاع مدى صواريخها مساوياً لشعاع نفوذها الاقتصادي في سوريا، حيث تظهر الإحصائيات التجارية المتبادلة أرقاماً خجولة جداً مقارنة مع دول المنطقة خلال السنوات الماضية.
ماذا يمكن أن تقدم إيران في عملية إعادة الإعمار السورية؟!
في الحقيقة يصعب الجزم بشكل قاطع في الوقت الحالي حول ماذا يمكن أن تقدم إيران لنظام الأسد في مرحلة إعادة الإعمار القادمة، في ظل إحصائيات تجارية متدنية وخجولة بسبب وجود عدة عوائق أساسية منها الطرق التجارية المكلفة والطويلة والعقوبات الأميركية، وقائمة طويلة من الاتفاقات الاقتصادية غير المترجمة على أرض الواقع (أكثر من 37 اتفاقية اقتصادية وعدد كبير من مذكرات التفاهم)، ومجموعة كبيرة من الهياكل والأجسام الإدارية المختصة غير الفاعلة بتوسيع عملية التبادل التجاري بين الجانبين.
وتزداد هذه الصعوبة في الجزم، عندما نظن أن الحكومة الإيرانية العاجزة عن تنفيذ وعدها ببناء مليون وحدة سكنية في العام الواحد داخل إيران، قادرة على بناء مئات آلاف الوحدات السكنية كانت قد وعدت إيران بتنفيذها داخل سوريا منذ شباط 2019 دون أي إجراء فعلي على أرض الواقع حتى الآن.
وفي الحقيقة، يشير تشابه ظروف اقتصاد البلدين المحاصرين بالعقوبات الاقتصادية وجيوب الشعبين الفارغة إلى أن انخراط إيران في عملية إعادةالإعمار السورية المكلفة جداً لن يكون أمراً ميسراً البتة في الوقت الحالي.
لكن رغم أن هذه الحقائق يعلمها الإيرانيون جيداً، يبدو أنهم يحاولون اتخاذ خطوات قصيرة وغير مؤثرة على المدى القصير، وخوض تجارب اقتصادية في ساحة الاستثمار السورية الخالية من أي منافسين اقتصاديين، ريثما تتنفس إيران الصعداء بعودة الأموال المجمدة ورفع العقوبات الاقتصادية مع توقيع الاتفاق النووي المنتظر.
في الوقت الحالي، لا تنظر إيران إلى سوريا كبلد يسكنه ملايين السكان، بل كموقع استراتيجي يمكن خلاله تصدير البضائع نحو الدول العربية وشمال أفريقيا، والدول الأوروبية عبر مياه المتوسط الدافئة.
وعليه لا يجب التركيز على استراتيجية توسيع الصادرات الإيرانية نحو هذا البلد بقدر ما يجب العمل على نقل الاستثمارات الإيرانية إليه، وتشجيع التجار ومستثمري القطاع الخاص الإيراني على الانخراط أكثر في ساحة خالية تقريباً من منافسين إقليميين محتملين.
ورغم أن أي مراقب قد يستبعد توقيع تفاهمات اقتصادية خلال رحلة نصف اليوم التي أجراها الأسد إلى طهران، فإن أرضية أي توافق اقتصادي مع إيران في كل مجال حيوي سوري موجودة وموقعة في اتفاقيات سابقة تنتظر فقط مرحلة الإجراء وتدفق الأموال الإيرانية.
أي إن رحلة الأسد غير المتوقعة نحو طهران لن تحتمل تفسيرات أو نتائج غير متوقعة على الصعيد السياسي وكذلك الصعيد الاقتصادي، الذي كشفته قبلها بكثير تصريحات المسؤولين الإيرانيين وزيارات الوفود الاقتصادية الإيرانية العديدة إلى سوريا.
من زيارة وزير الطرق والتنمية العمرانية، رستم قاسمي، الذي أعلن في زيارته الأخيرة لدمشق في يناير 2021 أنه لم يعد يسمح بالتأخير في إحياء الفرص الاقتصادية الضائعة في سوريا أمام إيران، إلى زيارة وزير الصناعة الإيرانية، فاطمي أمين، الذي وعد في نوفمبر 2021 بنقل تجارب تحويل السيارات السورية للعمل بوقود الغاز، ومن ثم اقتراحه على صناع الفولاذ الإيرانيين الراغبين بترك هذه الصناعة بسبب مجموعة تحديات كارتفاع الأسعار والانقطاعات في الكهرباء والغاز وارتفاع تعريفات الصادرات، بنقل صناعاتهم نحو سوريا.