يشكل الخلاص من مصاعب الحياة ومشكلاتها والسعي والتوق إلى حياة كريمة أحد بنود النزعة الإنسانية، فكيف يكون الحال في مجتمعات وبلدان تشهد حروباً وصراعات تمتد لعقود مثل سوريا؟
كما أن عقد المقارنات بين الواقع المرير الذي يعيشه الفرد في تلك البلدان التي تشهد صراعات مع أقرانه في بلدان أخرى متقدمة، أو آخرين من بلده وصلت بهم قوارب اللجوء إلى أوروبا الهادئة، التي تشكل للأفراد المضطهدين أرض الأحلام، تدفع تلك المقارنات بالفرد للمخاطرة بحياته بغية الوصول إلى أرض الأحلام بعيداً عن وطنه.
هذه النزعة الإنسانية نحو حياة أفضل تدفع بنسبة كبيرة من الشباب السوري إلى خوض غمار رحلة اللجوء خارج وطنه، إن كان نحو تركيا بقصد العمل، أو نحو أوروبا بقصد الانتقال إلى حياة مستقلة يؤسس فيها الشاب أسرته بعيداً عن الصراع الذي يشهده بلده، والأوضاع الأمنية والاقتصادية والمعيشية المتردية فيه.
رحلة اللجوء ليست نزهة كما يصورها مهربو البشر بحسب معظم الذين عاشوا تلك الرحلة، واعتبر كثير منهم أنه لو كان على دراية بالمصاعب التي ستواجهه ربما كان سيعيد حساباته ويفكر ملياً قبل أن يخوض تلك التجربة، ويقع ضحية لكذب واحتيال المهربين.
وعلى الرغم من كون تهريب البشر جريمة كبيرة فإنها أمر شائع جداً في سوريا، فهناك تهريب خارجي على حدود سوريا مع جميع دول الجوار، يوازيه تهريب آخر للبشر بين مناطق السيطرة والسلطات التي تتقاسم النفوذ على الأرض السورية.
تيك توك وسيلة الترويج المفضلة لدى مهربي البشر
يلجأ مهربو البشر لوسائل عديدة في ترويج عملهم، إلا أن العام الأخير شهد طفرة في طريقة الترويج التي انتقلت من وضع إعلانات في مجموعات فيسبوك الخدمية والخاصة بالبيع والشراء إلى الانتقال إلى تطبيق تيك توك، حيث بات المهربون يستعرضون الفيديوهات القصيرة مع مقاطع موسيقية حماسية تدفع من يفكر بخوض رحلة اللجوء إلى حسم قراره والالتحاق بهم فوراً.
موقع تلفزيون سوريا رصد العشرات من مقاطع الفيديو على تيك توك والتي استعرضت لحظات قيام المهربين بقطع الأسلاك الشائكة على الجدار الحدودي بين سوريا وتركيا، أو حتى لحظة إدخالهم الأشخاص المهرَّبين إلى الطرف الآخر من الحدود وغيرها.
جميع تلك الفيديوهات كانت تعنون بعبارات براقة من أبرزها: "ملوك التهريب، أسياد الحدود" فضلاً عن عبارة كانت تقال على لسان من اجتازوا الحدود إلى بر الأمان وهي عبارة "الطريق دهب"، لكن الواقع مختلف بلسان من قالوا "الطريق دهب" وأنهم قالوها مجبرين بحسب زعمهم، وتحدثوا عن تجارب مريرة للغاية لهم على الحدود تختلف عما شاهدوه على تيك توك وما وصفه لهم المهربون.
لماذا تيك توك تحديداً؟
ينجذب كثير من المراهقين لمقاطع الفيديو التي يعرضها المهربون على تيك توك، والتي تصور لهم رحلة الموت على أنها نزهة وذلك بسبب العوامل الفكرية والنفسية للشباب في عمر المراهقة، ولعوامل أخرى تتعلق بطبيعة منصة تيك توك المختلفة عن غيرها من المنصات.
لفهم آلية عمل منصة تيك توك وأسباب استخدامها من قبل مهربي البشر وكيفية التأثير في عقول المراهقين حاور موقع تلفزيون سوريا السيدة بيان خانجي مسؤولة قسم السوشال ميديا في تلفزيون سوريا.
ترى خانجي أن الانتشار الكبير لمنصة تيك توك، وسرعة وسهولة الوصول فيها للجمهور، وغياب الموثوقية، وغياب تدقيق ومراجعة المحتوى، كونه لا يتبع لدولة تقوم على ذلك، بالانتشار الكبير للمحتوى وعدد القائمين على المنصة المحدود للغاية، يمنع القائمين عليها من مراجعة كامل المحتوى المنشور وتدقيقه وإغلاق الحسابات التي تنشر محتوى لا أخلاقي أو احتيالي أو محتوى يحرض على القيام بأعمال عنف.
أيضاً ترى خانجي أن النسبة الكبرى من رواد هذه المنصة هم من المراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين الـ١٨ والـ٢٥ عاماً، وهؤلاء يسهل اصطيادهم والتلاعب بمشاعرهم وطموحاتهم، وذلك بسبب سهولة العمل على المنصة من ناحية كسب المتابعين والحصول على الشهرة من خلال إنشاء محتوى بأسهل الطرق عبر دمج فيديو مع أغنية مثلاً.
المهربون استغلوا ميزات المنصة
التقى موقع تلفزيون سوريا بأحد مهربي البشر في إدلب أحمد (اسم مستعار) وحاوره حول أسباب استخدامه لمنصة تيك توك في الترويج لعمله في تهريب البشر.
يرى أحمد وغيره من مهربي البشر أن تيك توك يعدّ المنصة الأفضل على الإطلاق لترويج عملهم حيث يستغل أحمد وغيره من مهربي البشر ميزات هذه المنصة لجذب الزبائن الذين يسميهم بالركاب أو "النفرات"، ويقول أحمد: "لقد كنت في السابق أضع الإعلان عن وجود طريق تهريب إلى تركيا عبر مجموعات البيع والشراء على فيسبوك، لكن الأمر كان مقرفاً فكثير من الأشخاص يأتون عبر التعليقات لتعطيل عملية إقناع الزبائن، عبر تكذيبي وتهويل مخاطر الرحلة، أو عبر ذكرهم لوجود مهرب آخر يدخلهم إلى تركيا بسعر أقل، في العموم التعليقات على فيسبوك مشكلة كبيرة دفعتني لتركه، فهي تستحوذ على مساحة كبيرة من إقناع الزبون وغالباً تكون التعليقات سلبية"
ويضيف المهرب أحمد "تبلغ مدة الفيديو الذي ننشره على تيك توك 15 ثانية، أختارها بعناية، تكون اللقطة مميزة، وأضيف عليها أغنية حماسية تواكب ذوق أبناء الجيل الصاعد، وتسهم في جذبهم ورفع معنوياتهم".
أحمد الذي يبدو كمرشد نفسي أو مختص في التسويق تحدث لموقع تلفزيون سوريا عن أبرز الفيديوهات التي ينشرها قائلاً: "أنا لا أختار أي فيديو وأنشره، فمن بين كل ٦ رحلات تهريب بالمجمل تنجح واحدة بشكل مناسب يمكنني أخذ فيديو مناسب لترويج عملي من خلاله، فأبرز الفيديوهات وأكثرها تشويقاً وجلباً للزبائن تلك التي نظهر فيها ونحن نقص الأسلاك الشائكة على الجدار بلا خوف، وتلك التي تظهر استيلاءنا على نقاط الحراسة التركية، رغم أن هذه الحادثة قد تحدث بالمصادفة مرة خلال كل نصف عام، لكن لها أثر كبير في نفوس النفرات (الزبائن)"
ويضيف أحمد أنهم استطاعوا كسر الصورة النمطية لدى الناس التي تختزل بعبارة "المهرب يتركك على الحدود تواجه مصيرك ويهرب عائداً إلى سوريا" وذلك عبر استخدام فيديوهات تظهر للزبائن بأنهم مجموعة منظمة فمقطع فيديو مدته 15 ثانية يظهر وجود أفراد من مجموعة التهريب يحملون كاميرا ويقومون برصد تحركات حرس الحدود التركي، إلى جانب فيديو آخر أيضاً مدته 15 ثانية تظهر أحد أفراد مجموعة التهريب وهو يعتلي ظهر الجدار التركي بلا خوف ويقص السلك الشائك كفيلة بإقناع الزبون بأن الطريق آمن وأن عملية التهريب مدروسة بعناية وليست عشوائية.
الواقع مختلف تماماً
في نهاية حوار موقع تلفزيون سوريا مع المهرب أحمد أقر الأخير بأن الواقع مختلف بنسبة كبيرة عما هو عليه على الأرض، وأقر بأن نسبة فشل محاولات تهريب البشر إلى تركيا تفوق الـ 70 في المئة من مجموع المحاولات، كما أقر بحدوث حالات قتل في أثناء تجاوز الحدود، وكلها أمور لا يتحدث عنها مهربو البشر، وهناك عرف بين أبناء هذه المهنة يقتضي بأن لا يتحدث أحدهم عن حدوث حالات قتل لدى زبائن غيره من المهربين كي لا تتضرر سمعته في السوق على حد وصف أحمد.
برر أحمد طريقة إعلانه اللامنطقية بقوله: "القصة باختصار عمل، والإعلان لا يعني الإجبار، ولا أحد يتحدث لزبائنه إلا عن أجود منتجاته"، واستحضر أحمد المثل الشعبي السوري "لا أحد يقول عن دبسه حامض، أو زيته عكر"
ضحايا عمليات التهريب لا يوثقون في إدلب
في إدلب لا يكاد يمر أسبوعان من دون سقوط قتيل على أقل تقدير على يد حرس الحدود التركي خلال محاولات اجتياز الحدود المستمرة يومياً، لكن لا إحصائيات رسمية ولا حقوقية لأعداد القتلى، وقد تواصل موقع تلفزيون سوريا مع عدد من الجهات الحقوقية في محاولة منه للحصول على إحصائية لضحايا اجتياز الحدود لكن دون جدوى، أحد العاملين في تلك المؤسسات الحقوقية قال: "لا يمكننا توثيق أمر كهذا، وحتى لو كان موثقاً فلا يمكن نشره" ربما في إشارة منه لوجود مراكز تلك المؤسسات في تركيا، وأشار ذلك العامل الذي رفض الكشف عن هويته بأن من يقتلون خلال محاولة اجتيازهم الحدود يدرجون في جداول التوثيق تحت بند "جهات أخرى" وذلك من دون تحديد هوية المتسبب بالقتل.
@user723755067512 تهريب من تركيا لليونان ولصربيا وللنمسا شاحنات وسيارات ومن تركيا ل ايطاليا يخت #لبنان #اليونان #اورفا #بغداد #العراق #ديرالزور#الرقة #حلب #اسطنبول #اور ♬ الصوت الأصلي - آلَقــيــصــر
لكن الشيء المؤكد هو غياب التوعية الكافية عن مخاطر عمليات تهريب البشر ولا عن مخاطر تيك توك على فئة المراهقين تحديداً، حيث ترى بيان خانجي أنه في ظل غياب منهجية واضحة لدى المنصة في الحد من انتشار المحتوى السلبي يجري استقطاب الجمهور وخاصة فئة المراهقين من خلال ضخ محتوى هادف بطريقة سلسة توائم عقول أفراد هذه الفئة وآلية عمل وشروط هذه المنصة، كالمحتوى المعني ببناء الشخصيات، لتحقيق انتشار كبير للمحتوى الهادف القادر على مجاراة المحتوى السلبي من ناحية الانتشار واستقطاب الجمهور وبناء توجهاته أو تصحيح مفاهيمه.
وتنتقد خانجي إحجام شريحة كبيرة من المؤثرين في المجتمعات عن هذه المنصة بدعوى أنها منصة للتسلية أو الرقص والغناء والموسيقا الهابطة، والفيديوهات المخلة بالآداب وغيرها من أشكال المحتوى السلبي.