خلال ثلاث عشرة سنة ما فتئنا نترقب كل تعيين وانتخابات وتصريحات أميركية، مرة ننتظر الخلاص على يد الجمهوريين، وأخرى ننتظره على يد المرشح الديمقراطي، وهنا سيناتور متحمس للسوريين، وهناك عضو كونغرس هواه إيراني، والحقيقة الناصعة أن الحال لن يتغير سواء صعد الجمهوريون أو الديمقراطيون.
في ثلاث عهود مضت حكم أوباما ثم ترامب ثم بايدن، والمشهد السوري ينحدر باضطراد، والحصيلة النهائية ما تزال القبضة الأميركية تمسك بكل قوتها جميع مفاصل الملف السوري، فلا يتحرك يمنة أو يسرة إلا بالمقدار الذي تقدره، وتجده يحافظ على جريان نهر الدماء، ولا يعد بأدنى اقتراب من حل ممكن، وهي حريصة كل الحرص على إبقاء جميع التكوينات صغيرة وضيقة وهشة، ومرهونة بصنبور الدعم الذي ما أن يتوقف حتى تدخل تلك التشكيلات الصغيرة في سبات عميق، وليسامحنا المعترضون على الدوام على أي تحليل يقترب من رائحة المؤامرة، أو تحميل جهة خارجية دوراً مشاركاً في الفشل الذريع الذي أحاق بالثورة السورية، الفعل الأميركي ليس سراً ولا مؤامرة بل تحكم دولة عظمى بسير المجريات في مناطق نفوذها، على نحو يحقق مصالحها ومصالح شركائها، العلة تكمن فينا أننا ننساق بوعي وبغير وعي وراء ترهاتها الإعلامية، وبالونات الاختبار والإلهاء التي تشغلنا بها كل حين.
لا يخفى على أي سوري يتابع الشأن السوري من الداخل أو الخارج، أن ضابط الإيقاع الأقوى والمسيطر الأكبر على مسارات سنوات الأزمة السورية، إنما هي الإدارة الأميركية، وغير بعيد عنا منذ بدء الحراك السلمي في سوريا، كيف حرضت الإدارة الأميركية عبر سفيرها في دمشق جموع المحتجين، على التظاهر والمطالبة بالحقوق، تلا ذلك عشرات الوعود الضبابية بدعم المعارضة السورية، معظمها لم ينجز.
ولن ينسى السوريون الخط الأحمر الذي توعد به الرئيس باراك أوباما قبيل ضرب الأسد السوريين العزل بالسلاح الكيماوي، وكيف تراجع هذا الخط الأحمر وتغير لونه للبرتقالي دون أي استحياء أو تعليل، خلاصة القول يمكن إيجاز المنتج النهائي للدعم الأميركي في سوريا، بدولة هشة ممزقة تتقاسمها قوى مختلفة، لا يمكن أن تنجح باجتراح أي حل في سوريا ما لم يعط العراب الأميركي، إشارة القبول أو البدء لفعل ما.
ربما لا يمكن تجاوز الوجود الأميركي، لكن من الممكن كخطوة أولى التعافي من الرهان عليها، أو النظر اليها كجهة مهتمة بحل الأزمة السورية.
ويمكن لأي متابع لسياسة الولايات المتحدة الأميركية في سوريا وفي إدارة أزمتها، أن يلحظ جملة من النقاط التي يمكن التعاطي معها كمادة خبرية، وليست كنتائج تحليلية، أهمها الحرص على إشاعة الفوضى وإدارتها عبر وكلاء محليين، التذبذب في السياسة الخارجية إزاء ملفات في غاية السخونة، عدم التدخل بشكل جدي مما يمنح الأطراف الأخرى اللعب في هوامش تصنعها لهم، عدم دعم المعارضة بالقوة الكافية لإسقاط النظام عمليا، بالرغم من قدرتها الفائقة على خنقه وإسقاطه في الوقت الذي تريد، إدخال روسيا كقوة دولية لإنقاذ الأسد كما صرحت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، كل هذا يأتي مصحوباً، بالإعلان المتكرر، عن رغبة الإدارة الأميركية في نشر الديمقراطية ومحاصرة الأنظمة الديكتاتورية.
ربما لا يمكن تجاوز الوجود الأميركي، لكن من الممكن كخطوة أولى التعافي من الرهان عليها، أو النظر اليها كجهة مهتمة بحل الأزمة السورية، بل على العكس تماما جميع المؤشرات تؤكد على حرصها المضطرد على إبقاء الأزمة السورية في برزخٍ، يتأرجح بين اقتراب طفيف ومخادع من الربح تارة والخسارة أخرى، وهي حريصة كل الحرص على ألا تحسم الأزمة لصالح أي طرف، بل تعمل على تصفية بعض القضايا على الأرض السورية وفي مستنقعها، ومنذ سنوات ما زلنا نسمع أغنية أن الأميركيين يعملون على إغراق الروس والإيرانيين في المستنقع السوري واستنزاف قوتهما، لكن واقع الأمر أن من يغرق في هذا المستنقع وتهدر دماؤهم وأرواحهم هم الأبرياء السوريون وحدهم، ولا تزداد القوات الروسية والإيرانية إلا توغلا وتجذرا في الأرض السورية بشكل سرطاني عصي على الاقتلاع.
يمكن إيجاز المنتج النهائي للدعم الأميركي في سوريا، بدولة هشة ممزقة تتقاسمها قوى مختلفة.
قسط كبير من التحليلات الحالمة، انطلق من رؤيا افتراضية تهيمن على المشهد، أن الإدارة الأميركية تمثل الشرطي العادل الذي يغضبه ضرب السلاح الكيمياوي لآلاف الأطفال والنساء السوريين، والواقع والتاريخ القريب، يشيران أن الإدارة الأميركية هي أبرع اللاعبين الدوليين منذ قرن أو يزيد، في تخليق الأزمات والكوارث الدولية التي تعبث بملايين أروح البشر، وتستثمر في هذه الأزمات، وآخر ما يعنيها هو عدد القتلى والضحايا في كل مغامرة من مغامراتها، سواء كان عدد الضحايا رقماً ينتهي بخمسة أصفار أو سبعة أصفار، ما يهم هو مقدار بسط السيطرة وحركة الدولار، وإدارة الحروب الاستراتيجية عبر وكلاء محليين، يدفعون فاتورة الدم والنفط والذهب.
المصيبة الكبرى لا تتمثل فقط في معرفة حقيقة الدور الأميركي، والتعافي من الارتهان له، بل في غياب قيادة سياسية على قدر متواضع من الفهم والمسؤولية، تدير الملف السوري في الأروقة الدولية، على نحو مختلف، يمهد الطريق إلى وقف النزيف والتزييف، وفتح الأفق لحلول مرجوة وإن بالحد الأدنى للطموحات الإنسانية.