لا شيء ينافس الأدب في التعبير عن الواقع، وهذه هي المهمة الرئيسة للأدب؛ أن يخلق عالماً موازياً للواقع الذي يعيشه الناس، ولكن بطريقة الكتابة النزيهة الشجاعة والصادقة. لطالما أحسست أن ثلاثية نجيب محفوظ حين نقرؤها تُغني عن قراءة مئة كتاب في علم الاجتماع، فقد عبّرت ثلاثيته بدقة لا متناهية عن أكثر من ثلاثة عقود في مصر. أي أن وظيفة الأدب ليست جمالية فقط بل هي تنويرية للعقول وإثارة للأسئلة والتفكير لدى القارئ حول واقعه.
وأيضاً، يمكن للأدب أن يحفز على إيجاد حلول لأزمات معقدة في حياة الناس وفي تحفيزهم على مقاومة الظلم والاستبداد. الأدب الخالد هو الأدب الذي عبر ببراعة عن حياة شعبه ومآسيه وأحلامه. وسوف نحتاج لصفحات كُثر لذكر الأدباء –بمن فيهم الشعراء- الخالدين لأنهم كانوا شجعاناً وصادقين في التعبير عن آلام شعوبهم وآمالها، وبعض هؤلاء الكتّاب سجنتهم الأنظمة الاستبدادية أو قتلتهم. وأحبّ أن أذكر هنا موقفاً يدل على عظمة الأدب، بوصفه أصدق تعبير عن الشعب، فمن جملة ما يجب أن يحفظه المتقدّم بطلبٍ للحصول على الجنسية الإنكليزية (في الكتاب الذي يدرسه طالب الجنسية) عشرة أقوال على الأقل من كتابات شكسبير، وليس جملةً أو عبارة واحدة للملوك والحكّام! ذلك لأن شكسبير عبر عن شعبه وكتب له مسرحيات إنسانية خالدة.
ما يهمني جداً متابعة دور الأدب في سوريا، الذي للأسف لا أعرف الكثير عن تفاصيله إلا في اللاذقية، مدينتي الحبيبة، فأنا أتابع بدقة النشاطات الثقافية في اللاذقية (معظمها تحت رعاية اتحاد الكتاب العرب). وقبل أن أطلق أي حكم على هذه النشاطات الأدبية، من واجبي الأخلاقي تقديم نماذج من هذه النشاطات التي تُسمى –مجازاً- أدبية. وبالطبع لا ينبغي أن نتغاضى عن مأساة الشعب السوري الذي نزح أكثر من ثلثه، والملايين منه قضى نحبه، أو انهيار العملة الوطنية والمجاعة والفساد وفحش أثرياء الحرب والخوف من شجاعة الكلام.
من هذا الواقع الأليم يجب أن ينطلق الأدب ليعبر عن معاناة وأحلام الشعب السوري، وعن طوابير الخبز والمحروقات وشبه انعدام للكهرباء، وعن حالات انتحار الشابات والشبّان من اليأس والفقر. فكيف هو حال الأدب والنشاطات الأدبية في اللاذقية التي لا تختلف بالتأكيد عن حال بقية المحافظات؟
- أولا- الشعور بأنك في طهران: فمن أهم نشاطات اتحاد الكتاب العرب في اللاذقية هو الإعلان عن الجائزة العالمية للكتاب في مسابقة "الجمهورية الإسلامية الإيرانية"، الدورة الـ29، بهدف التعرف إلى الكتب القيمة ضمن مجال "الدراسات الإيرانية الإسلامية" من جهة التأليف والترجمة وعلم اللسانيات الإيراني، بالإضافة للتعرف إلى الكتاب الإيرانيين. وبحسب ما جاء في نصّ الإعلان: ترسل الأعمال المشاركة في المسابقة إلى طهران– شارع "الثورة الإسلامية" (انقلاب بغطاء إسلامي)- زقاق الخوجة- الأمانة العامة لـ "الجمهورية الإسلامية الإيرانية"... وتفاصيل أخرى كثيرة لا مجال لذكرها، وكلها ترتبط بتاريخ إيران القديم وحضارتها والأدب الفارسي والشعر وهلم جرّا.
بداية لا أنكر أن ثمّة أدبا إيرانيا قيّما وثمينا، أذكر منها على سبيل المثال روايات الكاتبة الإيرانية المبدعة "آذار نفيسي" التي عبرت عن جوهر المجتمع الإيراني، والتي كانت أستاذة جامعية في جامعة طهران، وأظن أنها تعيش الآن في أميركا. وكم هو عظيم شعر الشاعرة الإيرانية العالمية "فروغ فرخ زاد" التي ترجمت كل أشعارها إلى العربية ولغات كثيرة أخرى، والتي كتبت نصاً أدى إلى طلاقها وطردها من بيت والدها حمل عنوان: "أثمت إثماً مُشبعاً باللذة".
شعرت حقيقةً وأنا أقرأ عن مسابقة "الجمهورية الإسلامية" للكتّاب وتفصيلاتها التي لم تترك أي تفصيل عن دراسة الأدب الإيراني إلا وذكرته، بأنني في إيران لدرجة أن سوريا غابت عن ذهني وذاكرتي! ورغم تقديري لكل الآداب ومنها الأدب الإيراني، أصابني الذهول وشعرت بانفصام في الشخصية! هل الأولوية الآن في سوريا لمسابقة ضخمة عن أدب "الجمهورية الإيرانية" في حين يعاني أكثر من 80 في المئة من شعب اللاذقية من الجوع واليأس ومعاش الاحتقار وطوابير الخبز الذي لا يكاد يُبلع؟
بناء وطن آمن يشعر مواطنوه بالكرامة لا يكون بقراءة كتب المؤلفين الكبار، بل بخلق ظروف تجعل الشباب يشعرون بقيمتهم وكرامتهم، وبمنحهم فرص عمل برواتب تضمن لهم العيش الكريم
ألا يرى أعضاء اتحاد الكتاب طوابير السوريين الذين يقضون نهارهم في انتظار رغيف الخبز وأسطوانة الغاز، بعد أن نسوا هم وأطفالهم طعم سمك بحرهم واللحم والفاكهة والخضر؟ هل يتذكرون وهم يشاركون في المسابقة إياها أن سعر البيضة الواحدة 600 ليرة سورية، وأن آخر الإحصائيات بينت تراجع النمو الجسدي والذهني لأطفال سوريا بسبب المجاعة والفقر و"التعتير"؟ هل تجاهلوا منظر كثير من الجياع من أطفال ونساء ورجال ينبشون في حاويات القمامة بحثاً عن لقمة طعام حتى لو كانت متعفّنة لتسدّ عضات الجوع في بطونهم الخاوية؟. وهل يتساءل أولئك (الكتّاب) عن تدهور التعليم في سوريا واعتماد معظم الطلاب على المعاهد الخاصة والدروس الخصوصية، وعن صفوف البكالوريا الخاوية في كل المدارس من دون مبالاة؟ ألا تستحق أزمات الشعب السوري التي ذكرت قسماً بسيطاً منها، قدراً من الأهمية بدل "جائزة الجمهورية الإسلامية الإيرانية" التي يجب على المشتركين فيها معرفة تاريخ إيران القديم والحديث وكُتّاب إيران وأدبائها؟
- ثانياً- محاضرة موسّعة لاتحاد الكتاب العرب بعنوان: "كيف نربي جيلاً يستطيع أن يبني وطناً آمناً ومستقراً في ظل ما يطرحه جورج أورويل من جهة ودان براون من جهة أخرى"!
يا سلام على هذا الترف الفكري! لعلّي مصابة بتخلف عقلي إذ صعقني عنوان المحاضرة، وأزعم أن معظم الحضور لم يسمع بأورويل أو قرأ شيئاً لـ براون. ثم، ما علاقتهما ببناء جيل يستطيع أن يبني وطناً آمناً ومستقراً؟ هل سيتعلم جيل الشباب المُحبط اليائس الفقير الذي يبحث عن بارقة أمل في وطنه ولا يجد في أحسن الأحوال وظيفةً يكفي راتبها لشراء ربطة خبز فقط؟ هل نطلب من شبان وشابات سوريا أن يقرؤوا لجورج أورويل ودان براون كي يتعلموا بناء وطن الكرامة والأمن والأمان؟ أليس الأحقّ بناء الإنسان المُعافى عقلياً وجسدياً، وحر التفكير، والذي يشعر بكرامته ولا تتقصف فرائصه ذعراً إذا تكلم بشفافية وانتقد الفاسدين؟
بناء وطن آمن يشعر مواطنوه بالكرامة لا يكون بقراءة كتب المؤلفين الكبار، بل بخلق ظروف تجعل الشباب يشعرون بقيمتهم وكرامتهم، وبمنحهم فرص عمل برواتب تضمن لهم العيش الكريم. فحين يتغلب الشباب على الإحباط واليأس ويشعرون بأن وطنهم والقائمين عليه يعملون لمصلحتهم، سيبادلونهم الحب ويبذلون كل جهد لبناء ذلك الوطن وحمايته والحفاظ عليه، وليس للقفز إلى قوارب الموت أو التعامل مع مهربين يطلبون عشرات آلاف اليوروهات لتهريبهم. كم هو محزن خسارة شباب سوريا التي لا تُعوض. أظن بأني لست الوحيدة التي تشعر بالذهول والصدمة من عنوان تلك المحاضرة عن "بناء وطن آمن ومستقر" استناداً إلى كتب أورويل وبراون.
- ثالثاً- سأمرّ على عناوين محاضرات ومؤلفات قدمها كتاب سوريون في اتحاد كتاب اللاذقية، وكما يُقال "المكتوب مبين من عنوانه": محاضرة بعنوان "توهم معاني الألفاظ وأثره في الذاكرة"، وأخرى بعنوان "مفهوم الحرية في الدين والدولة"، ومحاضرة أخرى بعنوان "القوة الناعمة ما بين العولمة وثقافة الصورة".
أما (الكاتب الدكتور) عدنان مصطفى بيلونة الذي كان ضابطاً في الجيش والقوات المسلحة قبل أن يصبح -في السابق- رئيساً لاتحاد الكتاب العرب في اللاذقية، فله كثير من المؤلفات، وأذكر منها: (دراسات في الأمن القومي العربي- أربع مجلدات وكل مجلد 800 صفحة)، وكتاب بعنوان (المشروع الصهيوني والسلام الإسرائيلي) الذي قدم له علي عقلة عرسان الرئيس السابق لاتحاد الكتاب العرب في سوريا لأكثر من ربع قرن. كما لبيلونة كتب ساخرة على ألسنة الحيوانات مثل (إلى أين أيها الحيوان– عفواً أيها الحيوان– لماذا أيها الحيوان– ماذا بعد أيها الحيوان...)!
ولا ينبغي أن نغفل الاحتفالية الأدبية بيوم الشعر العالمي التي حملت عنوان: "الشعر في الحفاظ على الهوية الوطنية وتجسيد القيم الإنسانية"، ومحاضرة عن التاريخ والآثار بعنوان "حاضرات الرقة تاريخياً وأثرياً". بالإضافة إلى الكثير الكثير من عناوين أقف أمامها بذهول منقطع النظير، لشعوري بأنها طلاسم وعبارات لا معنى لها، مبهمة وغامضة. كل تلك النشاطات الأدبية والثقافية لاتحاد اللاذقية تثبت بأنه منفصل كلياً عن واقع المواطن السوري وأزماته المعيشية وخاصة أزمات الشباب الذين خسرت سوريا مئات الألوف منهم.
ونتذكر هنا عبارة ألبير كامو الرائعة: "الكتابة شرف"، والمقصود بها شرف قول الحقيقة وشرف قول المسكوت عنه وقول ما يخاف الناس قوله، الكتابة شرف حين يتبنى الكاتب قضايا شعبه ويتحدث عنها بنزاهة وصدق. كم هو مؤلم ألا تجد وسط هذا الكم الهائل من الأنشطة والمحاضرات عنواناً واحداً يتحدث عن طفل سوري ينبش في القمامة أو يتسول، أو عن فرط العتمة بسبب انقطاع الكهرباء أو عن طوابير الخبز. وعلى ما يبدو أن المواطن السوري غائب تماماً في نشاطات الكتاب والأدباء في "اتحاد كتاب" اللاذقية، وكأنه مواطن أوروبي لا ينقصه سوى التمتّع بقراءة أورويل وبراون ونيكوس كازنتزاكس!
هي حالة عجيبة من الانفصال عن الواقع وآلام وقهر الإنسان السوري وانعدام الحرية، ولعل الحيوان محظوظ أكثر منه كما جاء في كتابات بيلونة "عفواً أيها الحيوان... ماذا بعد أيها الحيوان". أكتب بألم وخيبة أمل عن نشاطات ذلك "الاتحاد" في مدينتي، الذي يمكن له التحدّث عن كل ما له علاقة بأدب "إيران" وتاريخها، وعن كل شيء آخر غيرها، وأن يبتكر عناوين عجيبة في إبهامها، لكنه يأبى أن يكون إلا منفصلاً عن الإنسان السوري.