اكذب ثم اكذب حتى يصدّقك الناس

2024.06.27 | 05:46 دمشق

آخر تحديث: 27.06.2024 | 05:46 دمشق

544443
+A
حجم الخط
-A

من المألوف أن يكتب الساسة مذكراتهم أو بعضاً منها في معرض تناولهم لقضايا سياسية مهمة بنظرهم، وقد تكون كتابتهم متعددة الأهداف فمنهم من يريد كتابة معلومات غير معروفة عن أحداث جرت وكانوا على اطلاع بكواليسها وخفاياها، ومنهم من يكتب لتبرئة ذاته من أخطاء أو جرائم ارتُكبت في أثناء عمله، ومنهم من يكتب ليسوّق لسياسة حكومته، أو لينتقدها، ومنهم من يكتب لأهداف أخرى.

لكن وبغض النظر عن الأهداف فإن ما يجمع كل هذه الكتابات هو أنها تحاول جاهدة الإيحاء بالصدق، أو أنها تقول الحقيقة عارية، وأنها بمثابة الوثيقة التي يمكن اعتمادها لمعرفة حقيقة غائبة، وبالتأكيد فإن معظم هذه المذكرات تكذب بهذا الحد أو ذاك، لكن في حال أراد كاتبها أن يكذب فإنه غالباً ما يلجأ إلى حيل بارعة في الكذب، فقد يتجاهل حقيقة ما، أو يتطرق إليها مسرعاً، لكن أن تكون الرواية من ألفها إلى يائها مبنية على كذب صفيق وواضح فهذه سابقة تسجل لوزير الخارجية الإيرانية "حسين أمير عبد اللهيان" الذي توفي مؤخراً في حادث تحطمٍ غامض لمروحية إيرانية أودت بحياته وحياة الرئيس الإيراني "إبراهيم رئيسي" وآخرين.

قبل ما يقرب من عام صدرت الترجمة العربية لكتاب "صُبحُ الشام" الذي كتبه "عبد اللهيان" عن دار "المحجة البيضاء" في "بيروت"، وعن الكتاب يقول مؤلفه: "الكتاب الذي بين أيديكم يروي مذكراتي عن الحرب الإرهابية على سوريا. ويعود الفضل في تدوين هذه المذكرات إلى البطل الأممي في مكافحة الإرهاب اللواء العزيز الحاج قاسم سليماني. طلب مني اللواء سليماني في اجتماع لنا قبل عام من ارتقائه إلى الملكوت شهيداً، أن أدوّن وأنشر قسماً من ذكرياتي مشدداً على ذلك من أجل إيصال رسالة البسالة والشهادة والشجاعة، وعلى المقلب الآخر لتبيين الجرائم والخيانة التي حصلت في سوريا ومنطقة غرب آسيا".

لا يتسع مقال كهذا لإيراد عشرات الأكاذيب التي يتضمنها الكتاب، سواء أكانت الأسباب التي دفعت إيران للتدخل في سوريا، ومروراً بتفاصيل هذا التدخل وانتهاءً بعلاقة الأطراف الدولية والإقليمية بالصراع في سوريا.

بسهولة بالغة، ومن الصفحات الأولى من الكتاب سيدرك أي متابع للدور الإيراني في سوريا أن مذكرات وزير الخارجية الإيراني ليست سوى الرواية الإيرانية الرسمية، ورواية النظام السوري أيضاً، عن التدخل الإيراني في سوريا لمنع سقوط نظام بشار الأسد، ومن الطبيعي إذاً أن يكون اللواء في "الحرس الثوري الإيراني" الذي اغتالته طائرة عسكرية أمريكية قرب مطار بغداد "قاسم سليماني" _مهندس التدخل الإيراني في الدول العربية عموماً وفي سوريا على نحو خاص_ المثال العظيم لمؤلف الكتاب، فيصفه بأنه "جنرال ذو سمة عالمية واستراتيجي التفكير ودبلوماسي ماهر"، ومن الطبيعي أيضاً أن تكون المؤامرة الكبرى على النظام السوري المقاوم العنيد في مواجهة محور الشر الذي تتزعمه أمريكا سبب التدخل الإيراني ولا شيء آخر.

لا يتسع مقال كهذا لإيراد عشرات الأكاذيب التي يتضمنها الكتاب، ابتداء بالأسباب التي دفعت إيران للتدخل في سوريا، ومروراً بتفاصيل هذا التدخل وانتهاءً بعلاقة الأطراف الدولية والإقليمية بالصراع في سوريا، لكن يمكن التطرق إلى نقاط أساسية وردت في الكتاب حول هذا التدخل، والتي تبدأ بالتركيز على الدور الأخلاقي للتدخل الإيراني المختلف عن تدخل الأطراف الأخرى بسبب مصالحها فقط، بما في ذلك روسيا حليفة إيران وحليفة النظام السوري والتي كان تدخلها حسب عبد اللهيان "براغماتياً"، وفي مفارقة تدعو للسخرية خصوصاً عندما يكتبها وزير خارجية في مذكراته، ولايقولها في مؤتمر صحفي، أو حديث عابر، فإن الروس الذين تدخلوا عسكرياً في سوريا 2015 لخدمة مصالحهم لم يكونوا ليدركوا هذه المصالح لولا أن نبههم لها السياسي العبقري" عبد اللهيان" ومن ثم معلمه العظيم "قاسم سليماني".

يشبه وصف "عبد اللهيان" التدخل الإيراني في سوريا بأنه تدخل أخلاقي إلى حد كبير وصف "نتنياهو " للجيش الإسرائيلي بأنه أكثر الجيوش أخلاقاً في العالم، ولايخجل "عبد اللهيان" من القول إن حماية المراقد الشيعية كانت من أهم أهداف التدخل الإيراني في سوريا، لابل يكذب وبلا خجل حين يقول إن قدوم أعداد كبيرة من المتطوعين "الشيعة" من باكستان وأفغانستان والعراق كان فقط للدفاع عن "الحرم الزينبي المقدس"، متجاهلاً حقيقة يعرفها كل العالم وخصوصاً السوريين أن المراقد الشيعية محمية منذ مئات السنين من قبل سوريين ليسوا شيعة، ومتجاهلاً حقيقة أن كل من أتت بهم إيران لم يكونوا سوى مرتزقة جاؤوا ليتقاضوا أموالاً مقابل دفاعهم عن بشار الأسد ونظامه.

لعل الفائدة الوحيدة التي تقدمها مذكرات عبد اللهيان هي أنها تخفي تحت سطورها حقيقة بنية الدولة الإيرانية، وجوهر المشروع الإيراني في المنطقة، ففي إيران لا توجد دولة خارج الحرس الثوري الإيراني.

في فقرة تدعو للسخرية فعلاً، وتدعو القارئ للاستغراب والتساؤل إن كان فعلاً من كتب هذا الكلام يشغل منصب وزير خارجية؟! يورد "عبد اللهيان" حواراً جرى بين الرئيس الروسي "بوتين" وبين السياسي السعودي المعروف "بندر بن سلطان" في لقاء حول سوريا: سأل بوتين بندر بن سلطان في ذلك اللقاء "ما هو برنامجكم وطريقة عملكم في سوريا"؟ أجاب بندر بغرور: إننا عملنا على تنظيم المنفصلين عن الجيش السوري في الجيش الحر، يضاف إلى ذلك أننا جمعنا الكثير من المجموعات المسلحة "الإرهابيين" من كافة أقطار العالم.

سأل بوتين بندر متعجباً: هذا يعني أنكم تريدون إسقاط بشار الأسد بأسلوب عسكري؟، تحدث بندر بصراحة: نعم، لا يوجد حل سياسي في سوريا، ويجب إسقاطه بواسطة العسكر"، أجابه بوتين: "أنتم تعلمون أن المسلحين والإرهابيين إذا سيطروا على دمشق فسوف ينتقلون بعد ذلك إليكم في الرياض"، أجاب بندر: نعم، نعلم ذلك، لكننا خططنا لتلك المرحلة أيضاً. بعد إسقاط بشار سنعمد إلى قصف الإرهابيين داخل دمشق". ويكمل عبد اللهيان، يقال إن بوتين بعد الجلسة خاطب المحيطين به متعجباً: "حقاً ما هذه العقليات التي تتخذ القرارات للمنطقة!".

هكذا وببساطة شديدة يورد عبد اللهيان حواراً بين شخصيتين سياسيتين مخضرمتين، ولهما باع طويل معروف في السياسة والعلاقات الدولية، ويصورهما ساذجين يتعاطيان السياسة بخفة وبحماقة، فالرئيس بوتين لا يعرف المصالح الاستراتيجية لروسيا في سوريا لو لم يوضحها له عبد اللهيان، وكذلك بندر بن سلطان الذي ينقل للرئيس الروسي سيناريو بالغ السذاجة.

لعل الفائدة الوحيدة التي تقدمها مذكرات عبد اللهيان هي أنها تخفي تحت سطورها حقيقة بنية الدولة الإيرانية، وجوهر المشروع الإيراني في المنطقة، ففي إيران لا توجد دولة خارج الحرس الثوري الإيراني، ومن يقود إيران بكل تفاصيلها وسياستها الداخلية والخارجية هو الحرس الثوري، ومشروع إيران المرتكز في جوهره على استنهاض العصبية الطائفية الشيعية في مواجهة الطائفية السنية يريد فعلاً استعادة هيمنة إيران عبر التغلغل داخل البنيات الاجتماعية لدول المنطقة وتدميرها من داخلها.

يمكن الحديث كثيراً عن مذكرات "عبد اللهيان" لكن ما يصدم فعلاً هو هذا الكذب الصريح الذي لا تكاد تخلو منه صفحة واحدة من الـ340 صفحة المشكّلة له، لكأنه تلميذ نجيب لـ "غوبلز" الإعلامي النازي الشهير صاحب المقولة المعروفة: "اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس".