بعد أربع سنوات من وضع حجر الأساس، افتتح يوم أمس الجمعة مسجد تقسيم في إسطنبول، بحضور الرئيس التركي طيب أردوغان، وآلاف المصلين الذين افترش معظمهم أرض ميدان تقسيم لأداء صلاة الجمعة.
وألقى الرئيس التركي خطاباً من المسجد، أهدى فيه الافتتاح للذكرى الـ 568 لفتح إسطنبول على يد السلطان محمد الفاتح، وذكّر بالتحديات والعوائق التي تجاوزوها على مدار سنين لتحقيق هذا المبتغى.
وقال أردوغان: "لا يساوركم الشك أن الصوت الذي يتردد صداه من مسجد تقسيم يزعج الإمبرياليين الطامعين في بلادنا وداعمي الإرهاب".
وأشار إلى أن فكرة بناء مسجد يطل على ساحة تقسيم تعود إلى أيام الحرب العثمانية الروسية بين عامي 1877 و1878، وطرحت هذه الفكرة مجدداً في فترة حرب الاستقلال قبل نحو قرن "ليكون رمزاً لعزيمة الأمة في سبيل الاستقلال".
وبحسب أردوغان فإن مسجد تقسيم يعد ثالث صرح ديني "يتم إهداؤه لإسطنبول" في الآونة الأخيرة، بعد مسجد تشاملجا الكبير، وإعادة فتح "آيا صوفيا" للعبادة بعدما كان يستخدم متحفاً.
وقال أردوغان في تغريدة، "بمشيئة الله تعالى لن يغيب المصلون عن جامعنا، ولن ينقطع صوت الأذان عن مآذنه، وستعلو أصوات القرآن من قبته حتى قيام الساعة". معرباً عن أمله في أن يجلب مسجد تقسيم الخير لإسطنبول وتركيا والعالم الإسلامي.
كما نشر الرئيس التركي صورة تحت عنوان "شعبنا يحقق حلمه الممتد إلى 150 عاماً"، تضمنت معلومات حول المسجد.
آمل أن يجلب #مسجد تقسيم الذي أدينا فيه اليوم أول صلاة جمعة الخير لإسطنبول وتركيا والعالم الإسلامي.
— رجب طيب أردوغان (@rterdogan_ar) May 28, 2021
بمشيئة الله تعالى لن يغيب المصلون عن جامعنا ولن ينقطع صوت الأذان عن مآذنه وستعلو أصوات القرآن من قبته حتى قيام الساعة. pic.twitter.com/HdG9zMyRna
رغم وجود ما يقارب الـ 3500 مسجد في إسطنبول، فإن لافتتاح هذا المسجد على وجه الخصوص رمزية كبيرة في الصراع الأيديولوجي على السلطة، والممتد لعقود في تركيا بطرفيه الإسلامي والعلماني.
لطالما عد ميدان تقسيم، الواقع في مركز مدينة إسطنبول، رمزاً لجمهورية تركيا وعلمانيتها. حيث يتوسطه "نصب الجمهورية" الشهير حاملاً تماثيلَ لمصطفى كمال أتاتورك ورفاقه، مؤسسي جمهورية تركيا العلمانية الحديثة. لذا وعلى مدار عقود طويلة وحتى تاريخ اليوم، وقف الجناح العلماني، المتأصل في مفاصل الدولة التركية الحديثة، عائقاً أمام محاولات بناء مسجد في ميدان تقسيم.
حلم أردوغان صعب المنال
استذكر الرئيس أردوغان، الذي ترعرع في منطقة "قاسم باشا" التابعة لـ تقسيم، في خطابه اليوم من أمام مسجد تقسيم، أيام شبابه حين كان يصلي "المؤمنون" مفترشين الصحف ضمن مساحة تشبه القفص بسبب منع وجود مسجد في الموقع- على حد وصفه، في إشارة لرمزية بناء هذا المسجد على صعيده الشخصي.
وفي فيديو أعيد تداوله على منصات التواصل الاجتماعي التركية تزامناً مع افتتاح المسجد، يظهر طيب أردوغان قبل 27 عاماً، ذو الأربعين عاماً والمرشح لانتخابات رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى حينها، مشيراً أمام كاميرات الصحفيين بيده لموقع المسجد الحالي، مصرحاً بنيته بناء مسجد هناك عند فوزه، سائلاً الله أن يجعل وضع حجر أساس هذا المسجد من نصيبه.
سيفوز أردوغان، ممثلاً حزب "الرفاه" بقيادة نجم الدين أربكان، بانتخابات عام 1994 المحلية، ليصبح رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، وسينجح بتمرير قرار بناء مسجد تقسيم ضمن مجلس بلدية إسطنبول الكبرى. لكن ستقف أمام هدفه عوائق إدارية وقضائية، ولن يتاح له الوقت للتعامل معها نتيجة حدوث انقلاب 28 شباط الشهير، الذي أطاح بحكم حزبه "الرفاه" آنذاك، وزج بأردوغان نفسِه في السجن لبضعة أشهر.
حكاية سبعين عاماً
صحيح أن الرئيس التركي أردوغان أحد أبطالها الرئيسين، إلا أن حكاية بناء مسجد تقسيم في الموقع نفسه تتجاوزه لتمتد لما يقارب الـ 70 عاماً من المحاولات التي باءت جميعها بالفشل. كان أولها عام 1952 بمطلب من جمعيات أهلية في زمن رئيس الوزراء السابق عدنان مندريس، الذي أُعدم لاحقاً بعد انقلاب أطاح بحكمه.
ستأتي المحاولة الثانية في منتصف الستينيات بمبادرة من رجال أعمال أتراك، بعهد رئيس الوزراء السابق سليمان دميرال، والذي وافق مجلس وزرائه على بناء المسجد عام 1979. لكن لن يكتب للمسجد أن يرى النور نتيجة حصول انقلاب عسكري عام 1980، أعاد زمام السلطة للجناح العلماني في الدولة.
وسيصدر عام 1983 قرار من "مجلس الدولة"، السلطة الإدارية القضائية الأعلى في الدولة التركية، يعتبر الأرض المخطط بناء المسجد فيها "موقعاً محمياً". ليكون هذا القرار سداً قضائياً أمام محاولات نجم الدين أربكان ورجله حينذاك طيب أردوغان لبناء المسجد في تسعينيات القرن الماضي.
حلم يتحقق
بعد انقلاب 28 شباط من عام 1997، الذي أطاح بأردوغان ومعلمه أربكان، سيغلق ملف بناء مسجد تقسيم لـ 15 عاماً لحين اشتداد عود رئيس الوزراء حينها أردوغان عام 2013. سيواجه مخططه لتجديد ميدان تقسيم والمتضمن بناء المسجد معارضة شديدة من الأحزاب السياسية والعديد من الحركات الشعبية، مستندين إلى مخاوف من مسح إرث أتاتورك أو الاعتراض على قطع أشجار متنزه "غيزي" في ميدان تقسيم. لتندلع احتجاجات شعبية معارضة لمخططه عرفت باحتجاجات "متنزه غيزي".
بعد نجاح أردوغان بتجاوز تحدي المعارضة السياسية والاحتجاجات الشعبية، سيصدر عام 2015 قرار من "مجلس الدولة" التركي يبطل سابقه الصادر عام 1983. ليكون لهذا القرار دلالة رمزية على أنَّ أردوغان نجح فيما لم ينجح سابقوه، أي الإحكام بزمام بيروقراطية الدولة التي لطالما كانت قلعة الجناح العلماني.
في عام 2017، وبعد أشهر من محاولة الانقلاب الفاشلة، بتوجيه من طيب أردوغان، وضع حجر أساس مسجد تقسيم، منيهاً عقوداً من الصراع والجدل في هذا الشأن، وموجهاً رسالةَ قوة لأطراف الصراع على السلطة في الدولة التركية.
لا يمكن القول إن جدلية بناء مسجد تقسيم هي محور النزاع بين الأطراف، لكن ذلك لا ينكر الرمزية التي شاءت الأقدار أن يكتسبها. ولذا من منظور العارف بتاريخ تركيا، فصلاة الجمعة التي أقيمت في تقسيم اليوم حدثٌ جللٌ.