كانت فكرة الاعتصام في أي ساحة أو مكان في العاصمة دمشق ضرباً من الجنون، لكنَّ ثورات الربيع العربي جعلت ذلك الأمر وارداً في ذهن من أراد الحرية لسوريا. ولذلك منذ بداية آذار 2011 خطط مجموعة من ناشطي الحراك المدني في سوريا والذين عرفوا بنضالهم ضد نظام الأسد، ليكون السادس عشر من آذار يوماً فارقاً في تاريخ سوريا السياسي، حيث شهد الشارع الممتد بين وزارة الداخلية وساحة المرجة وسط العاصمة أول محاولة اعتصام للمطالبة بالإفراج عن معتقلي الرأي.
وحول ذلك اليوم قالت المعارضة السياسية سهير الأتاسي وهي إحدى المنظمات للاعتصام وأبرز من شاركوا فيه، لموقع تلفزيون سوريا، إن فكرة هذا الحراك كانت تراكمية وحاول المنظّمون له التخطيط لإنجاحه، والحيلولة دون أن يتمكّن النظام من قمعه، وأضافت في هذا الصدد: "عمِلنا على هذا الاعتصام انسجاماً مع ثورا ت الربيع العربي التي سبقتنا، خرجنا قبله مرات عدة منذ ربيع دمشق، لكن مع بداية الربيع العربي أصبح نشاطنا مكثفاً، وبدأنا البحث عن أي ثغرة تدفع الناس للخروج إلى الشوارع، وكنّا متأكدين من أنَّ الثورة السورية قادمة لا محالة. كنّا نرى ذلك في عيون الشباب الذين خرجوا قبل ذلك اليوم في اعتصامات لدعم ثورات الربيع العربي كما حصل أمام السفارة الليبية".
كيف كانت البداية؟
الهدف الرئيس من الاعتصام الذي شارك فيه عدد من الشخصيات المدنية والسياسية في سورية هو المجاهرة برفض ممارسات النظام والمطالبة بالمعتقلين السياسيين وفق سهير التي أضافت: " كنتُ من الحلقة الصغيرة المُنظّمة لهذا الاعتصام، وإذا اعتبرنا مظاهرة الحميدية في 15 من آذار من العام ذاته هي أول احتجاج علني ضد النظام، فإن اعتصام وزارة الداخلية في 16 من آذار هو الثاني. عمِلنا على هذا الاعتصام ضمن دائرة ضيقة جداً وتواصلنا مع كل ذوي المعتقلين في المحافظات السورية للحشد لهذا اليوم. وأردنا تقديم عريضة لوزارة الداخلية تتحدّث عن حال المعتقلين وعدم خضوعهم لمحاكمات عادلة بشأن التهم التي وُجّهت لهم، والمطالبة بإطلاق سراحهم".
في السياق نفسه قال الباحث منير فقير الذي كان مشاركاً في الاعتصام أيضاً، لموقع تلفزيون سوريا: "عندما بدأ الربيع العربي كنا نبحث عن شرارة ننطلق منها للانضمام إلى موجة التغيير، وكان المعتقلون أول من فكّرنا بهم لأن النظام استخدمهم على مدى عقود سلاحاً لقمع الشعب السوري وللضغط على البقية. كان لي أصدقاء في إعلان دمشق اعتقلوا، كما يوجد معتقلون من عائلتي، وهذا ما دفعني للمشاركة في ذلك الاعتصام. فكرنا بتقديم العريضة لوزارة الداخلية كونها الجهة التي تدير السجون والمعتقلات ".
"أثناء تحضيرنا للاعتصام تعمدنا أن يكون معظم المشاركين من أهالي المعتقلين، وخصوصاً النساء، لاعتقادنا أن النظام لن يتصرف بعنف معهنّ"
وعن خطوات التحضير للاعتصام تقول الأتاسي: "نسقنا مع معتقلي الرأي داخل السجون، مع مباشرتنا في فكرة الاعتصام، وهم بدورهم بدؤوا إضراباً مفتوحاً عن الطعام قبل أيام. وأثناء تحضيرنا للاعتصام تعمّدنا أن يكون معظم المشاركين من أهالي المعتقلين، وخصوصاً النساء، لاعتقادنا أن النظام لن يتصرف بعنف معهنّ، وسيكون من الصعب عليه إنهاء الاعتصام بالسرعة التي يريد. ورغم ذلك أصرّ الرجال على المشاركة".
وعن الدوافع وراء اختيار وزارة الداخلية وموضوع المعتقلين بالأخص قال الصحفي منهل باريش، الذي كان موجوداً، لموقع تلفزيون سوريا "إنَّ فكرة الاعتصام أتت بعد صدور العفو العام، الذي لم يشمل المعتقلين السياسيين. حينها بدأت المجموعات المشاركة في الاعتصام العمل على تنظيم عريضة لتقديمها لوزير الداخلية للاحتجاج على مضمون المرسوم كونه صاحب الاختصاص".
وأضاف باريش: "مشاركتي في الاعتصام كان لها عدة أسباب أبرزها أنَّ والدي كان معتقلاً. بدأنا بالتحضير لهذا الاعتصام منذ مطلع آذار، لم يكن الأمر مرتبطاً بمظاهرة 15 من آذار في سوق الحميدية في قلب العاصمة آنذاك، لكن بعد هذه المظاهرة بدأنا بالحديث عن تغيير موعد الاعتصام الذي حددناه في وقت مسبق لأنَّ الأمن كان مستنفراً بشكل كبير. وقّع على العريضة أسر وأهالي المعتقلين السياسيين. من مدينة سراقب وقّع ثلاثة شباب كان لهم معتقلون في صيدنايا، منهم عائلة الشهيد، أسعد هلال، الذي اغتيل عام 2012."
"الذعر هو مصدر العنف المفرط"
في نحو الساعة 11 صباحاً توجه المتظاهرون من ساحة المرجة إلى الباب الخلفي لوزارة الداخلية وفقاً لـ"باريش" الذي قال " حملت في ذلك اليوم صورة أبي، وصور آخرين لم أكن أعرفهم شخصياً منهم غسان ياسين، وكمال اللبواني، ومشعل التمو. كل ما أتذكر هو اقتراب سهير الأتاسي مع نارت عبد الكريم مننا. وما أن رفعنا صور المعتقلين، حتى هجم علينا نحو 200 عنصر أمن كانوا في الطرف المقابل لنا ومعهم رئيس فرع الأمن الداخلي. وباشر عناصر الأمن بسحل المتظاهرين. سيدات من آل اللبواني لجأنَ إلى أحد المطاعم القريبة، إلا أن عناصر الأمن كسروا الباب وأخرجوهن. ما أتذكره كيف ضربوا الدكتور الطيب تيزيني وسحبوه بطريقة عنيفة. أتذكّر أيضًاً كيف وطأت أقدامهم جسد سهير".
وعن تلك اللحظة قالت سهير: "بعد ثوانٍ من رفعِنا صورَ المعتقلين بدأ الأمن هجومه. العنف الذي صدر من عناصر الأمن في ذلك اليوم ونظراتهم وتوحشهم كان ذلك مختلفاً عن كل المرات التي سبقته، حيث داهمنا الأمن بأماكن مختلفة وكثيرة منذ ربيع دمشق. لكن الكره والحقد الذي بدا في أعينهم يومَ الاعتصام، كان كبيراً وواضحاً، وبدا اختلاطه بالخوف جليّاً، وهذا يبرهن أنهم كانوا مذعورين لدرجة لا توصف. من اللحظة الأولى شرعوا بضربنا، وبدؤوا في الوقت نفسه بمسيرة مضادة تهتف للنظام. داسوا علينا أثناءها وضربونا. أذكر تماماً كيف مشوا فوقنا وهم يهتفون (بالروح بالدم نفديك يا بشار) ونحن ما زلنا نحاول أن نرفع الصور. ضربوا النساء بشكل همجي وشتمونا يومها بألفاظ بذيئة".
صور المعتقلين أيقونة المظاهرة
" كنا حريصين على حمل صور المعتقلين الذين لم يكن أهلهم قادرين على الاعتصام مثل طل الملوحي، وغسان ياسين، ورغدة الحسن، وتهامة معروف، وأنور البني، وعلي العبد الله، بالإضافة للإخوة الأكراد"
ولم يكن هم المتظاهرين في تلك اللحظة سوى رفع صورة المعتقلين عالياً وفق سهير التي أضافت:" كنا حريصين على حمل صور المعتقلين الذين لم يكن أهلهم قادرين على الاعتصام مثل طل الملوحي، وغسان ياسين، ورغدة الحسن، وتهامة معروف، وأنور البني، وعلي العبد الله، بالإضافة للإخوة الأكراد ولا يمكن حصرهم جميعاً. كان هناك حالة تضامن فريدة في ذلك اليوم، الكلّ أراد أن يحمل صور المعتقلين، والذين كان أهلهم غير موجودين كان الشباب يتخاطفون صورهم لحملها، أصدقاء غسان ياسين حملوا صورته، وزوجة نزار رستناوي حملت صورته أيضاً، وأتذكّر تماماً كيف حملت منتهى الأطرش صورة طل الملوحي. عندما بدأنا في التجمّع كنا نشعر بالمسؤولية تجاه الصورة، كنا نريد أن تُرفع جميع صور المعتقلين ويراها العالم بأسره، وكنا نشعر أننا نسابق الزمن".
وحولَ التضامن والتكاتف بين المعتصمين في ذلك اليوم، لفتت سهير أن حالةً من التعاضد والوفاق هيمنت على الأجواء مشكّلةً صورة جماعية للشارع السوري الثائر لا يمكن محوها من الذاكرة وقالت: "عندما كان يحاول عناصر الأمن اعتقال أحد الشبان كان يتمسك به صديقه. أحدهم تتمسّك به زوجته، كانوا يعتقلونها معه. على الرصيف، كان يقف ضابط أمن يختار من يريد أن يعتقل. تعامل الأمن معي بشكل استثنائي من الوحشية منذ اللحظات الأولى، إذ حاول الفصل بيني وبين بقية المعتصمين. ستة من عناصر الأمن كانوا يتناوبون على سحلي وضربي بالهراوات مع الألفاظ البذيئة واتهامي بالعمالة للموساد، اعتقلوا عدداً كبيراً من النساء المشاركات بالاعتصام، وحتى الأطفال لم يسلموا من الاعتقال حيث اعتقلوا ابن رغدة الحسن مع أبيه. كمية العنف التي مورست على المعتصمين أوحت أن النظام كان مذعوراً يومها على عكس ما كان يدعيه من القوة".
المحال التجارية تحولت إلى معتقل
وبسبب كثرة المعتقلين حوّل الأمن المحالَّ التجارية إلى مراكز اعتقال مؤقت وفق منير فقير، الذي قال: "في ذلك الوقت كان النظام قد جهّز مسيرة مضادة تهتف ضد مطالبنا. ما أذكره تماماً أن عناصر الأمن حوّلوا المحالَّ التجارية لمراكز اعتقال مؤقتة، لأنهم لم يجهّزوا سيارات قادرة على اقتياد كل الموجودين واعتقالهم. يبدو أنهم لم يقدّروا حجم المظاهرة بشكل جيد لأنهم لم يسبق لهم أن قمعوا مظاهرات على مدى العقود ماضية. لم اعُتقل في ساحة المرجة، ذهبتُ وفقَ الخطة إلى شارع النصر قرب القصر العدلي، هناك رأيت عناصر من الأمن يضربون شابتين ويحاولون اعتقالهن، تدخلت أنا في المشادة، تمكنت الشابتان في إثرها من الهروب واعتُقلت إثرها شهراً كامل. كان معي في السيارة نفسها التي اعتقلت فيها محمد أديب مطر".
"بعد أسبوع حوّلوا بعض مَنْ اعتقلوهم في الاعتصام إلى السجن الذي كنت أقبع فيه حينها، وكانوا بوضع لا يصدّقه عقل. بالمختصر جاؤوا زحفاً من شدة التعذيب"
في الموضوع ذاته، سردَ المحامي مهند الحسني، لموقع تلفزيون سوريا، وقائعَ مرتبطة بالاعتصام على الرغم من كونه معتقلاً في ذلك الوقت: "كنت في السجن حينها، لكني كنت أتابع بدقة ما يجري في الشارع. في ذلك اليوم استخدموا مكتبي باعتباره قريباً جداً من مكان الاعتصام استخدموه مركز تجمع، وفيما بعد اختبؤوا به، العريضة التي حملها المعتصمون كانت تطالب بإطلاق سراح المعتقلين. ذلك اليوم يعتبر أول ظهور رسمي للشبيحة. بعد أسبوع حوّلوا بعض مَنْ اعتقلوهم في الاعتصام إلى السجن الذي كنت أقبع فيه حينها، وكانوا بوضعٍ لا يصدّقه عقل. بالمختصر جاؤوا زحفاً من شدة التعذيب وبالسجن كانوا بحاجة لكل شيء حتى الملابس الداخلية ".
"لا يمكن حصر كل أسماء المشاركين"
اعتصام 16 من آذار جمع عدداً كبيراً من معارضي النظام والمثقفين السوريين بالإضافة للناشطين وفق سهير التي قالت "ممن نظموا الاعتصام كانت كاترين التلي ورزان زيتونة، لا يمكنني حصر كل المشاركين في الاعتصام، لكنن أتذكر ناهد بدوية، و دانا جوابرة وعائلة اللبواني، والمحامية سيرين خوري، وسمر يزبك ومنتهى الأطرش وعساف عساف، وشادي أبو فخر وعامر مطر، هيرفين أوسي ووفاء لحام وخليل معتوق ويحيى شربجي ومحمد خليل وآخرين كثر".
أما منهل باريش فقال "كان معي أخي شادي الذي استشهد لاحقاً، وفضل حسان من سراقب، وبدري شلاش، ويسار باريش، ومازن درويش، وكمال شيخو، ووليد البني هؤلاء كانوا إلى جانبي".
من جهته، تذكر منير الفقير ياسين اللبواني، وأسامة نصار وزوجته ميمونة، فواز تللو ومعاذ الخطيب، بالإضافة لأشخاص مازالوا معتقلين عند النظام تحفظ على ذكر أسمائهم.
هل كانوا يفكرون بإسقاط النظام؟
وبخصوص الهدف الذي كان مُرتجى من الاعتصام في ذلك اليوم أوضح باريش "كنت أعتقدُ يومها أن الانفجار قادم في سوريا، كنا نرى التغيير في تونس ومصر وهو ما يحتّم وصوله إلى سوريا، وكنّا نعرف تماماً أن النظام لن يقبل بإصلاحات، مع ذلك كنا نرغب بأن يكون هناك تغيير ديمقراطي سلمي وبشكل تدريجي مثل مطلب إعلان دمشق".
بدورها أكدت سهير على أن فكرة إسقاط النظام كانت واردة في ذهن من كان في الاعتصام وأضافت: "منذ أول يوم هتف الشارع السوري أمام السفارة الليبية (خاين يلي بيقتل شعبو)، كنا ندرك ونعرف حقّ المعرفة أن الثورة ستندلع في سوريا، لأن هذا النظام لا يمكن إصلاحه، ومُنذ تلك اللحظة كان مطلب تغيير النظام نصب أعيننا".
أمَّا منير الفقير فتمنى أن يكون مطلب إسقاط النظام فاقعاً وعلنياً في الاعتصام، غيرَ أن ذلك كان صعباً جداً في تلك الفترة وفق تعبيره، وقال: "منذ 15 من آذار كنت أنتظر أن يجاهر الناس بإسقاط النظام، لكن هذا المطلب لم يكن موجوداً في البداية لدى عامة الناس، ولم نكن نجرؤ على سحبهم باتجاه هذا المطلب لكنه كان حاضراً في ذهني دائماً".
وأردف الفقير:" أن ثمن المطالبة بالحرية كان باهظاً، والشعب السوري يعلم أن ما حدث صحيح وصحي، وسيعبّدُ طريق الحرية والكرامة لأجيالنا القادمة، فجميعنا يدرك أن النظام تجاوز مرحلة الإصلاح، وكرّس حالة الظلم والاستبداد، ولو استمرينا بدفع أثمان المطالبة بالحرية بالتقسيط لكانت الفاتورة أكبر ودفعتها أجيال عدة".
وعدّت سهير أنه وعلى الرغم من الأثمان التي دفعها المعتصمون في ذلك اليوم، وما تلاه من أثمان باهظة دفعها الشعب السوري الثائر برمته وما زال، غيرَ أن هذا الحدث (الثورة) بعظمته كان حتمياً وليس بوسعنا -السوريين- إلا تحمّل نتائجه وقالت: " ثمن المطالبة بالحرية لم يكن باهظاً، بل إن السكوت لعقودٍ طويلة عن الإجرام الأسدي هو ما كان باهظاً، من زمن الأسد الأب إلى زمن الابن. لا تتحمّل الثورة هذا الوزر بل سنوات الصمت التي سبقت الثورة هي من تتحمّله".
واستدركت: "من البديهي أن الصمت والنظام هما المسؤولان الرئيسان عن هذا الثمن، الأجيال السابقة التي لم تستطع خلع النظام قبل تجذّره وسيطرته على سوريا. الثورة كانت ضرورة وما زالت مؤمنة بضرورتها. وقعنا بأخطاء وبحاجة لمراجعتها".