يبدو واضحاً أن الدراما العربية المشتركة تحاول جاهدة أن تواكب التطور وأن تسير على خطا المسلسلات العالمية، التي بات لها جمهور واسع في العالم العربي في الأعوام الأخيرة بفضل منصات العرض الرقمية.
في سبيل ذلك طرأت على الدراما العربية المشتركة جملة من التحولات الجذرية، التي أثرت بشكل كبير على شكل المسلسل الدرامي ونوعه والحبكات المتداولة فيه وما يتبعها من أمور تقنية. أول ما نلاحظ أن المسلسلات العربية المشتركة غيرت جلدها مؤخراً لتعتمد على قالب درامي مغاير تماماً عما كان سائداً؛ لتتخلى عن الحدود الزمنية القديمة التي التزم بها صناع الدراما لوقت طويل، ببنية درامية تتكون من ثلاثين حلقة تحل فيها العقد الدرامية كلها في الحلقة الأخيرة، وتم الاستعاضة عنها بقالب درامي أكثر مرونة، هو الأكثر شيوعاً في المسلسلات العالمية التي تسربت لنا عبر "نتفليكس" وقريناتها؛ ليكون الزمن الدرامي أقصر وممتداً على عدد أقل من الحلقات، يتراوح بين 8 و15، وتنتهي الحلقة الأخيرة بإطار مفتوح ليتيح لصناع العمل إمكانية صناعة أجزاء مكملة بحال نجاح العمل.
هذا التغيير على وجه الخصوص أدى إلى خلق المزيد من الهفوات والأخطاء في المسلسلات الأخيرة، لأن صناعتها بالغالب اعتمدت على كوادر فنية وكتاب ومخرجين يتقنون صناعة المسلسلات بالقالب القديم الممدد على زمن درامي طويل، وليس لديهم خبرات كبيرة بتكثيف اللحظات الدرامية وشدها. فعلياً لم يتمكن من تجاوز هذه الأزمة سوى عدد قليل من المسلسلات، أفضلها على الإطلاق هو مسلسل "اعترافات فاشونيستا"، الذي تشارك بكتابته وإخراجه سندرين زيتون ومازن فايد، بالتعاون مع السينارست ناديا طبارة؛ حيث تمكنت هذه الأسماء الجديدة في عالم صناعة الدراما من تجاوز كل الآفات ومخلفات الدراما الرمضانية، لتشكل مسلسلاً مختلفاً جذرياً عن كل ما سبقه فكرياً وبصرياً.
تتمحور حكاية المسلسل حول فتاتين تتنافسان على لقب الشخصية الأكثر تأثيراً في العالم العربي على السوشيال ميديا، وتربطهما علاقة قديمة وعميقة، حيث اشتركتا قبل عدة أعوام بارتكاب جريمة قتل غير متعمد. يلتم شمل صداقتهما بعد التعرض لهجمة إلكترونية شرسة تهدف لتحطيم المكانة التي وصلتا إليها وتشويه سمعتهما. وفي هذا السياق الدرامي يتم مناقشة العديد من القضايا المهمة، كالتنمر على وسائل التواصل الاجتماعي والقيود التي يفرضها المجتمع على جسد المرأة واستباحة جسد وخصوصية الفاشونيستات، والتعامل معهن بدونية لكونهن مشاهير يعتمدن فقط على الجمال والجسد. فعلياً هناك العديد من العوامل الإضافية التي تجعل مسلسل "اعترافات فاشونيستا" واحداً من أفضل المسلسلات على مدار العام الماضي.
منذ أن ساءت الأحوال الاقتصادية والسياسية في لبنان، بدأت المسلسلات المشتركة تبحث عن فضاءات درامية بديلة، وكانت الغلبة للإمارات، التي كان لها النصيب الأوفر. إلا أن المشكلة في المسلسلات المشتركة التي اتخذت من دولة الإمارات فضاءً درامياً لها، أنها كانت تفتقد للهامش الواقعي في نظيرتها التي كانت تنتج في لبنان، بسبب الميل الواضح لتقديم الإمارات كوجهة سياحية وتلميع صورتها وتقديم شعبها وحكومتها بصورة فائقة المثالية. ذلك أدى إلى خلق عوالم مشوهة في هذا النوع من الدراما، لا تشبه مجتمع الإمارات الأصلي، ولا تشبه حتى الجاليات التي تعيش فيه أو المزيج المتكون بينهم.
في "اعترافات فاشونيستا" نشعر للمرة الأولى بأن الحكاية صيغت بشكل يتماشى مع واقع المدينة، حتى وإن كانت الصبغة السياحية لم تُمحَ بعد
في "اعترافات فاشونيستا" نشعر للمرة الأولى بأن الحكاية صيغت بشكل يتماشى مع واقع المدينة، حتى وإن كانت الصبغة السياحية لم تُمحَ بعد، إلا أن تقديم هامش صغير عن أفكار الناس الذين يعيشون في دولة الإمارات والمعاناة التي تعيشها الفاشونيستات في وطأة معايير المجتمع الذكوري المسيطر، هو أمر نعيشه في الدراما للمرة الأولى. ذلك ما نشعر به أثناء متابعة المسلسل الذي يرصد بشكل دقيق آليات صناعة نجوم السوشيال ميديا، ويبين لنا كيف يكون الربح التجاري هو المتحكم ببنية العلاقات كاملةً، على حساب مشاعر العاملات في هذا المجال.
رغم أن المسلسل يركز بشكل كلي على الجاليات العربية التي تعيش بالإمارات، ولا تظهر فيه شخصيات المواطنين إلا بهوامش الحكايات وبمساحات صغيرة. إلا أن الأمر الذي يميز "اعترافات فاشونيستا" يتعلق بالصورة التي تظهر بها هذه الشخصيات وكيفية رسم ملامحهم. ففي الأعمال السابقة كانت شخصيات المواطنين دائماً هي شخصيات مثالية، دورها الدرامي يتعلق بحل مشكلات الآخرين ومساعدتهم على الحصول على حياة أفضل. وإذا أفردت لها مساحة أكبر، كما حدث في "المنصة" مثلاً، وكان لها خط درامي خاص وإشكالية درامية تعيشها، فهي تقتصر غالباً على نقص في الموارد المادية أو الحاجة إلى عقد شراكات والبحث عن الكفاءات؛ لتكون شخصيات سطحية لا تثير أي اهتمام على الإطلاق.
على العكس من ذلك، نجد أن شخصية "سلطان" في "اعترافات فاشونيستا" هي شخصية منسوجة من لحم ودم، وليست مجرد فكرة مثالية عن المواطن الإماراتي تتجسد على الشاشة. ليكون لدى "سلطان" العديد من الخصال السلبية، فهو يمثل وجه المجتمع الإماراتي الذكوري، الذي يرغب بامتلاك هؤلاء النساء (الفاشونيستات) ولكنه ينبذهن ضمنياً ويخشى أن يؤثر حضورهن على صورته. سنجده ببعض المشاهد يتصرف بخسة، يحاول أن يشتري امرأة من عشيقها ويتعرض للضرب، لتكسر بذلك الحدود الزجاجية الباردة التي كانت تتحكم بالعلاقات بين الشخصيات الإماراتية وباقي الشخصيات في المسلسلات السابقة.
وبغض النظر عن البيئة، وجدلية واقعية الفضاء الدرامي الذي نشاهده على الشاشة، فإن العلامة الفارقة التي تجعل "اعترافات فاشونيستا" واحدة من أفضل المسلسلات التي قدمت خلال العام الماضي، يتعلق بالأفكار والمقولات التي يقدمها العرض، والتي اقترنت بالأداء المتقن الذي قدمته الممثلة السورية مرام علي والممثلة اللبنانية ستيفاني عطا الله. حيث إن المسلسل يطرح حياة المشاهير ضمن فكر نسوي متطور، لا يحقر جسد المرأة ورغباتها الجسدية أو تلك التي تتعلق بالطموح المهني أو الشهرة. وكان من الجيد الاستعانة بممثلتين تنتميان لجيل ما بعد الحرب السورية وعدم الاعتماد على النجمات الخشبيات اللواتي كان لهن دور كبير بترسيخ أفكار مناقضة. وبالحلقات الأولى، تمكن المسلسل من جذب الجمهور بسبب تصويره لكواليس العالم الافتراضي مع إدراك حساسية العاملات فيه والخصوصية المنتهكة، وكان بالإمكان أن يُستكمل المسلسل على نحو أفضل، لو بقي يلعب بتلك المساحة بدلاً من الدخول إلى عالم الإثارة والجريمة، في تفاصيل حكاية الزمن الماضي.