انتهى الاعتصام المفتوح الذي استمر أسبوعين أمام مقر المجلس المحلي لمدينة مارع شمالي حلب يوم الخميس الفائت، على خلفية رفع أسعار الكهرباء، بعد تشكيل لجنة لدراسة العقود بين شركة الكهرباء والمجلس المحلي.
وانفض المعتصمون من الخيمة المنصوبة أمام مقر المجلس المحلي لمدينة مارع الذي قدم استقالته في 13 كانون الثاني/يناير، بعد تشكيل لجنة مكونة من 10 أشخاص من عسكريين وممثلين من المجلس المحلي وممثلين من المعتصمين وقانوني.
وأعلن المجلس في بيان نشره أنه باق لتسيير الأعمال إلى حين تشكيل مجلس آخر جديد يتسلم المهام الخدمية والإدارية في المدينة.
وبدت استقالة المجلس كمحاولة لامتصاص الغضب الشعبي المتصاعد بسبب فشله في تخفيض أسعار الكهرباء، والذي كان سبباً في توجيه أنظار المحتجين نحوه مطالبين إياه بالإصلاح والاستقالة في الكثير من المظاهرات الوقفات الاحتجاجية التي شهدتها المدينة أخيراً.
وشهدت مناطق سيطرة المعارضة السورية في ريف حلب (درع الفرات) حراكاً احتجاجياً متصاعداً منذ بداية العام 2022 بسبب الارتفاع الكبير في أسعار الكهرباء، والذي وصل إلى أكثر من الضعف، وتوزعت التظاهرات الشعبية على عدة مدن وبلدات، أهمها، اعزاز والباب وصوران وأخترين ومارع، وكان الحراك في الأخيرة أكثر كثافة واندفاعاً، وشارك فيه المئات من أبناء المدينة والنازحين المقيمين فيها.
مطالب لم تتحقق
الأسعار الجديدة التي أعلنت عنها شركتا الكهرباء akenergy والشركة السورية-التركية اللتان تتقاسمان توزيع الكهرباء في منطقتي (درع الفرات وغصن الزيتون) في ريف حلب خلال الأسبوع الثاني من شهر كانون الثاني الحالي، لم توقف الاحتجاجات في المدن الكبيرة، اعزاز والباب وعفرين ومارع، وذلك على الرغم من أن السعر الجديد يتيح لمحدودي الدخل الاستفادة من الخدمة بالسعر السابق (الكيلو واط الواحد بسعر 1 ليرة تركية) لكن بكميات محددة يجب معها الترشيد والتقنين في الاستهلاك.
في مارع لا يبدو الاعتصام المستمر أمام المجلس كما يتم الترويج له، حيث لم يعد محدودو الدخل في الشارع كما كانوا خلال النصف الأول من الشهر الحالي، أما المحتجون أمام المجلس ينقسمون إلى قسمين، الأول هم الفلاحون وأصحاب المشاريع الزراعية الكبيرة، ويزيد عددهم على 40 مزارعاً، والثاني أصحاب المنشآت الصناعية الصغيرة، ويزيد عددهم على 30، وكلاهما تضرر بقائمة الأسعار الجديدة.
واللافت أن من بين داعمي المحتجين في خيمة الاعتصام عسكريين وقادة كتائب تتبع للفصائل وهم في الوقت ذاته مستثمرون ومزارعون تضرروا من السعر الجديد، لذلك واصلوا دعم الاحتجاج، ويطلبون تخفيض أسعار الكهرباء التي يستخدمونها في عمليات استجرار المياه الجوفية لري محاصيلهم، وفي تشغيل آلات المصانع الصغيرة.
منتصف شهر كانون الثاني/يناير عقد قادة الفصائل المعارضة في مارع، وهم موزعون على كتلتين عسكريتين كبيرتين (الفيلق الثالث بقيادة الجبهة الشامية، والجبهة السورية للتحرير بقيادة فرقة المعتصم) واستدعي عدد من الأشخاص الداعمين للمحتجين في خيمة الاعتصام أمام المجلس لحضور الاجتماع المغلق والتباحث في مطالبهم، ومن المفترض أن يتم فض الاعتصام فور تخفيض الشركة التركية-السورية للأسعار لشريحتي المزارعين والصناعيين، ويجري فعلياً التباحث مع الشركة في هذا الخصوص.
استقالة المجلس
تبدو استقالة المجلس المحلي في مارع كسابقة لم تقدم عليها المجالس في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في ريف حلب، لذلك هلل الكثير من الناشطين لبيان الاستقالة، والذي اعتبروه عملاً ينم عن الشعور بالمسؤولية، وبأنه يعكس واقع الإصرار والعزيمة التي وصل إليها المحتجون.
الإشادة باستقالة المجلس لها مبرراتها، وذلك بالنظر إلى تجربة الكثير من المجالس في المنطقة، كالباب واعزاز وغيرها والتي سبق لها أن وقفت في وجه المحتجين رافضة الاستقالة وإتاحة الفرصة لوجوه شابة جديدة بأن تدخل تشكيلتها.
الباحث في الشأن السوري محمد السكري يرى أن "استقالة المجلس المحلي في مدينة مارع يعكس وعياً جيداً تجاه الاستحقاقات القادمة والحالية مع الحالة الخدمية والأمنية في مناطق المعارضة وتكمن أهميتها بأنها الأولى من نوعها ربما في تاريخ إدارة مناطق المعارضة، وهذا بالعموم من الممكن أن يفتح الباب ويشجع المجالس الأخرى التي تعجز عن تقديم نموذج يرتقي بالواقع الحالي على الاستقالة".
وأضاف السكري لموقع تلفزيون سوريا: "هذا سيضع الحكومة المؤقتة في موقف محرج أمام الرأي العام ويبدو أن إصلاح مؤسسات المعارضة سيبدأ من الأسفل إلى الأعلى وليس كما يتوقع بعضهم من الأعلى إلى الأسفل، ومن الواضح أن الوعي الجمعي لدى الشعب السوري قد تطور بشكل ملحوظ في إطار الدفاع عن حقوقهم في توفير أبسط مقومات الحياة وتحول التظاهر والتمرد من أمر غير مقبول إلى آلية ناجعة للتعامل مع الواقع الحالي السلبي".
وتابع السكري: "كلما تمسك الناس بحقوقهم وتحولوا من مجرد جموع رأي عام إلى سلطة رقابية تنتهج التظاهر للتعبير عن الرفض للقرارات والممارسات والنتائج؛ كلما تطور عمل المنظومات والمؤسسات المدنية، فالمجالس بالعموم مشكلتها تكمن في غياب القدرة على التعامل بمرونة مع الواقع الخدمي وضعف الكادر الذي يقود العملية وسط غياب الآليات الحكومية للتعامل مع ذلك من بينها التخطيط الاستراتيجي والشفافية والتنفيذ وبما لا شك به ضعف الدعم المادي المقدم".
وقالت مصادر محلية متطابقة لموقع تلفزيون سوريا إن "ما ورد في بيان استقالة المجلس المحلي في مارع غير حقيقي إلى حد بعيد، وذلك من ناحية مضمون البيان وتوقيته، فالمجلس عملياً قد انتهت ولايته نهاية العام 2021، ومن المفترض أن تتولى تشكيلة جديدة بداية العام 2022 القيام بأعمال المجلس للعام الجديد، وقد استغل المجلس الفرصة لكي يظهر بموقف بطولي، وليقول إنه استجاب لمطالب المتظاهرين والمحتجين، وهي محاولة أيضاً لوقف الاحتجاجات وفض الاعتصام أمام مقر المجلس في الحي الغربي من المدينة".
وأضافت المصادر "من المتوقع أن تبدأ جولة جديدة من التجاذبات في مارع بين المكونات العائلية والكتل العسكرية والتي من المفترض أن تنتج تشكيلة جديدة للمجلس المحلي، وغالباً لن تكون التشكيلة مختلفة عن سابقاتها، هذا إن كان المجلس القديم صادقاً في بيان استقالته وليس لدى أي من أعضائه نية بالبقاء.
وأوضحت المصادر أن آلية تشكيل المجالس المحلية في مارع وباقي مناطق المعارضة في ريف حلب "تتم بنظام المحاصصة، هكذا وبكل بساطة، مجموعة من الأشخاص غير الاختصاصيين يديرون عمل مكاتب خدمية (المياه والكهرباء والثروة الحيوانية والزراعة والصناعة وشؤون المنظمات) وغيرها، ويختارون من بينهم رئيساً للمجلس، وكل عضو يمثل عائلة نافذة أو فصيلاً عسكرياً على الأقل".
أزمة الإدارات المحلية
أعادت استقالة المجلس المحلي في مارع أزمة الإدارات المحلية الناشئة في ريف حلب إلى الواجهة من جديد، فالتجربة في بعض المدن مرت بعدة مراحل منذ سيطرة المعارضة السورية على المنطقة في الفترة ما بعد العام 2012، وإذا ما أجرينا مقارنة بين عمل المجالس في الفترة قبل العام 2017 (عندما كانت بلا دعم مباشر وتعتمد على ما يتم تقديمه من المنظمات والمجلس الانتقالي لمحافظة حلب الحرة) وبين الفترة التي تلت العام 2017، أي بداية دخول الدعم التركي إلى المنطقة، والذي شمل قطاعات عديدة، بما فيها المجالس، نرى أن الفترة الثانية تميزت بتطور عمل المجالس التي بدت أكثر تنظيماً، ولديها قدرات وإمكانات مستجدة مكنتها إلى حد ما من توفير الخدمات الأساسية ولو بدرجات متفاوتة من ناحية الكم والنوع.
وقال محمد جللو مدير دائرة المجالس المحلية في وزارة الإدارة المحلية التابعة للحكومة المؤقتة لموقع تلفزيون سوريا إن "المجالس المحلية في ريف حلب تعاني من تحمل أعباء ومسؤوليات سلطة حكم مركزي مع عدم وجود صلاحيات كافية لها وعدم وجود مرجعية أنظمة عمل موحدة تجمعها، بالإضافة لعدم توفر الموارد البشرية والمادية اللازمة لدى معظم المجالس".
وأضاف جللو: "لكي يتطور عمل المجالس المحلية لا بد من وجود إدارة موحدة تجمعها وتشرف على عملها وتتابع آليات تشكيلها، فالمظاهرات التي خرجت مؤخراً تحمل المجالس مسؤولية قطاعات ليست قادرة فعلياً على التحكم بها".
برغم تطور منظومة عمل المجالس المحلية في ريف حلب خلال السنوات الماضية إلا أنها ما تزال تحافظ على آليات التشكيل ذاتها التي نشأت عليها، وللفصائل المسلحة دور بارز في عمليات اختيار العضوية وتتدخل في الكثير من شؤونها وتوجيه خدماتها، كما تعاني من ضعف الإمكانات وعدم قدرتها على تنفيذ مشاريع كبيرة، كعمليات استجرار مياه الشرب كما حصل في مدينة الباب التي بدا المجلس فيها عاجزاً أمام أزمة المياه منتصف العام 2021.
الباحث السياسي محمد البقاعي يرى أن "المجالس أو الإدارات المحلية المصغرة في ريف حلب تعيش أزمة الشرعية، وهي على نوعين، شرعية الوجود التي عادت يتم ترسيخها من خلال الانتخابات المباشرة للمجالس، وهو أمر غير منتشر بشكل كبير في المنطقة، وكان هناك تجربة انتخاب يتيمة أخيراً في بلدة تركمان بارح، بينما باقي المجالس المحلية تشكل عن طريق التوافقات".
وأضاف البقاعي لموقع تلفزيون سوريا: "الشق الثاني من أزمة المجالس يتمثل في شرعية الأداء، أي أن يكون الجسم القائم قادراً على تقديم الخدمات بشكل يرضي الناس، لكن واقع الحال أن معظم المجالس عاجزة عن تحقيق هذه الغاية، وليس لأنها لا تريد أن تقدم الخدمات بكثافة ونوعية عالية، إنما بسبب ضعف إمكاناتها المادية، وقلة الخبرة وضعف الكوادر البشرية".
وأشار البقاعي إلى أن "المقارنة بين عمل المجالس قبل سنوات ووضعها الحالي يظهر مدى تطورها، لكنها بحاجة فعلية للمزيد من التطوير والشفافية، بالإضافة إلى المزيد من الدعم التركي والذي يجب أن يتوجه نحو توسيع قاعدة البنى التحتية الخدمية وتطوير عمل المرافق بشكل يساعد المجالس على أن تحظى بتأييد وقبول شعبي".
وتعاني المجالس أيضاً من التفاوت الكبير في مصادر الدعم فيما بينها، فمجلس اعزاز مثلاً يمتلك إمكانات كبيرة مقارنة بمجلس صوران، فالأول لديه عدة مصادر دعم غير الدعم التركي، مثالها، الضرائب التي يحصلها المجلس من عمليات عبور البضائع المتوجهة إلى إدلب أو تلك التي تدخل إلى المنطقة، بالإضافة إلى حصة كبيرة من واردات معبر باب السلامة، وجميعها يوظفها المجلس في تطوير البنى والمرافق الخدمية.
لا تبدو آليات تطوير عمل المجالس المحلية متوافرة في الوقت الحالي، ولا تتوافر الرغبة لذلك، وتميل الفصائل المتحكمة بعمل وآليات تشكيل المجالس إلى الحفاظ على البنى القديمة كما يحصل في مارع مثلاً، لذا لا يستبعد أن يمدد عمل المجلس المحلي لدورة جديدة، أو على الأقل يتم إجراء تغييرات طفيفة على عضويته من خلال إضافة أسماء جديدة يتم من خلالها إرضاء الأطراف التي تدعم الاحتجاجات، وهذا ما حصل أكثر من مرة في مارع وغيرها من مدن وبلدات المنطقة التي شهدت تظاهرات طالبت باستقالة المجالس المحلية خلال السنوات القليلة الماضية.