ازدحام الساحات والثنائيات العاطفية

2024.10.11 | 06:17 دمشق

بلاب
+A
حجم الخط
-A

على العكس من بعضهم، كنت على الدوام، أتعاطف مع حزن ودموع الأمهات الثكالى، حتى لو كان أبناؤهنَّ من قتلة السوريين. لكن في صيف 2015، شاهدتُ على إحدى الفضائيات اللبنانية الممانعة، مقابلة مع والدة أحد (المجاهدين) ممن قُتِلوا في سوريا. كانت المرأة فخورة بابنها الذي أخبرها قبل (استشهاده) أنه قتل سبعة عشر سورياً. يومها خالفت سجيّتي، ولم تعد الأمهات الثكالى لديَّ سواء. الآن أعرف تماماً أن تلك الأم جعلت منّي نسخةً أسوأ، لم أكن أريدها لنفسي.
هل أوقعتني تلك المرأة في فخِّ الاعتقاد بأن القضية السورية هي محور الكون أو على الأقل، القضية المركزية في حياتي؟ ربما. وأكثر من ذلك، لا يمكنني أن أنكر أن معظم السوريين، ومن بينهم أنا، وقعوا أكثر من مرّة في فخّ عدالة قضيتهم، حين اعتبروها الأكثر أخلاقية وأحقيّةً من قضايا مشابهة، مما يتيح لهم التجاوز عن أية قضية أخرى، وفي كل مرّة راحوا يعقدون مقارنات، غير منطقية غالباً، أدّت بهم في العديد من الحالات، إلى تبخيس القضايا العادلة الأخرى، بل والإعلاء من شأن مجرمين آخرين مقارنة بالأسد، في بعض اللحظات.
كنتُ (للحقيقة، وما زلتُ) أعتقد أن قضية السوريين ليست هامشيَّة بمواجهة القضايا الأخرى التي يعتبرها كثير من الباحثين والمحللين السياسيين قضايا الأمة المركزية. في سوريا قتل نظام الأسد وحلفاؤه ما يقرب من مليون سوري. بدايةً من المظاهرات السلمية، وصولاً إلى القصف والمجازر والإبادة باستخدام الأسلحة المحرمة، ثم إلى قتل عشرات الآلاف تحت التعذيب، وخلال ذلك، قام بتدمير آلاف المدن والقرى، وهجر الملايين داخل وخارج البلد. قضية كهذه يجب أن تبدو لأي مراقب، يمتلك الحدَّ الأدنى من الحسِّ بالعدالة، على أنها جريمة إباديَّة غير مسبوقة في العقود الأخيرة، ولا يمكن أن تكون إلا قضية مركزية حتى في تحليلات غير السوريين.
هل بدت كلماتي ووجهة نظري تنطوي على كثير من الأنانية، فتُقصي قضايا وضحايا الدول الأخرى؟ لا، بالتأكيد أنا لم أقصد ذلك. فيمكن لأي آخر أن يستعير حالتي، ويأخذها إلى قضية أخرى، خصوصاً في دول منطقتنا التي انتكبت بمشروعين توسعيين هما المشروع الإسرائيلي الصهيوني، والمشروع الإيراني الإمبريالي وملحقاته ممن يُدعون محور الممانعة. لكل صاحب قضية الحق في اعتبارها، أقلّهُ عاطفياً، الأهم، سواء كان لبنانياً أو عراقياً، يمنياً أو فلسطينياً سواء هجّرته ميليشيات المحور الإلهي من مخيم اليرموك ومن عموم سوريا، أو كان من الضحايا الذين يرزحون تحت القصف الإسرائيلي غير المسبوق بوحشيته في غزّة.
عربياً، هناك من ينتمي اليوم إلى محور الممانعة. وآخرون ممن ينتمون لمحور التطبيع مع العدو الإسرائيلي. وتدور حروب كلامية وتخوينية بين الطرفين، إعلامياً وعلى جميع منصات التواصل. أما صوت الاعتدال لأصحاب الرؤية الموضوعية، ممن لم يضيعوا البوصلة، وما زالوا يرون ضرورة مواجهة المشروعين في الإقليم، فهؤلاء رغم تموقعهم خارج المحورين، إلا أنهم يتعرضون للهجوم من الطرفين في هذه المرحلة.
من حق الفلسطينيين اليوم اعتبار قضيتهم مركز الكون، فليس قليلاً على الإنسان الطبيعي، بعد أن سُلبت أرضه، أن يرى موت أبنائه وأهله وأصدقائه، من دون أن يعتقد أن هذا الحدث هو أهم ما يجري على وجه الكرة الأرضية، وكذا اللبنانيين الذين تُقصف بيوتهم ويهجَّرون منها اليوم. بل ويمكن الذهاب أبعد من ذلك، واعتبار أن من حق أي إنسان في العالم، أن يرى في دمار قريته الصغيرة خلال عاصفة أو فيضان، القضية الأهم عالمياً. ولن يكون من المناسب لومه، عاطفياً على الأقل.
قبل عقود، توفيت أمي وأنا فتىً. في اليوم التالي لوفاتها كتبتُ (كتبت فعلاً) معاتباً الشمس، كيف أنها امتلكت الوقاحة لتشرق من جديد! لن أحدثكم الآن، كيف أرى موقفي ذاك الذي أراد حرمان البشرية من أي ضوء، بل ومن أصل مقومات الحياة. سأكتفي بالقول كم كان ذاك الفتى يشعر أنه على حق، عندما اعتبرَ أن كارثته الشخصية، هي أهم ما حدث في المجموعة الشمسية حينها.
اليوم، مع ازدحام الساحات (اشتقاقاً من المصطلح الفارغ "وحدة الساحات") بكل أنواع القصف والتفجير والقتل، ضاعت لدى كثيرين القضايا المركزية، فقفزت كل القضايا، لدى أهلها إلى المركز. ووقع الجميع في فخ عدالة قضاياهم، مع محاولة، تبدو عاطفية، لدفع القضايا الأخرى إلى الهامش.
هنا عليَّ، أخلاقياً، ألا أستثني الشعب الإيراني، الذي يرى أنه متروك دولياً منذ قرابة نصف قرن، ليعيش في ظل حكم فاسد أقل ما يقال عنه أنه ظلامي استبدادي. في هذه المرحلة، وقع الجميع في فخّ القضية الأكثر عدالة التي يجب على الجميع أن يتضامن معها. هذا التضامن للأسف لم ولن يحدث في ظل ضياع البوصلة، والتشابك المعقد بين من يجب تصنيفه كصديق أو رميه في خانة الأعداء.
يتصاعد اليوم صوت الضحايا السوريين، لاعتقادهم أن المجرمين ينالون جزاء جرائمهم، ولو بيد عدوهم التاريخي. فالسياسة والعدالة الدولية لم تنصفهم وهم يُقتَلون بمئات الآلاف، خلال أكثر من عقد. وكأنهم لم يجدوا في أيديهم دفاعاً عن حقهم في التعبير، سوى أن يرددوا خلف محمود درويش "من حقِّ الضحية أن تدافع عن حقّها في الصراخ"، ويمكن هنا التجاوز على الشاعر، واستبدال مفردة "الصراخ" ببدائل أخرى.
لوعدنا قليلاً للوراء، ما كان لهذه المناكفات ولا المقارنات أن تحدث قبل عام 2011، سورياً على الأقل. فقد كانت الاصطفافات تبدو (ظاهرياً) واضحة. ومن أورثنا ما نحن فيه اليوم، هو المحور الإيراني ورأس حربته في المنطقة، الذي جاهر بوقوفه مع نظام الأسد ضد السوريين. وأرسل هؤلاء الذين يُقتلون اليوم بالهجمات الإسرائيلية، ليقتلوا حلم السوريين ويرتكبوا المجازر الوحشية بحقهم. في حين كانت إسرائيل لأكثر من عقد مؤتمنة على الجبهة في غياب (حُماتها).
هل أبدو ثانيةً، أنني أعتبر القضية السورية هي المركزية، ومحور المقارنات لإثبات أحقيتها، وتبرئة طرف على حساب الآخر؟ لا. لن أذهب في هذا المنحى، أنا من دخلتُ السياسة من بوابة العمل الفلسطيني. لكن بعد مقتل عشرات آلاف المدنيين في غزّة منذ عام، وفي لبنان خلال الأيام الأخيرة، لا أجد أنه من الحصافة البحث عن أدلّة جديدة لإثبات وحشية إسرائيل. فبالنسبة لي، ليس بعد قتل الآلاف من أطفال غزة ذنب. ولكن هذا لن يمنعني، ولا بحال من الأحوال، من الوقوف إلى جانب من ما زالوا يصرخون من الألم في ساحة أخرى، كالساحة السورية. حتى لو بدوا في بعض اللحظات، يشبهون ذاك الولد المجروح بموت أمّه.