إلى جانب أزمات خدميّة ومعيشيّة يوميّة يكابدها السوريون في مناطق سيطرة النظام، ثمّة أزمات صحية وعلاجيّة تعاني منها بعض العائلات نتيجةً لتدهور القطاع الصحّيّ في البلاد والارتفاع الهائل في كلفة العمليات الجراحيّة في المشافي والعيادات الخاصّة التي يلجأ إليها السوريون عندما تكون الحالة الصحّيّة ملحّة ولا تتحمَّل التأجيل والتأخير الذي تفرضه الآليات البيروقراطيّة في المشافي التابعة لحكومة النظام السوري.
الديسك والقلب.. عمليات بالملايين
بعدَ مضي ثلاثة أشهر على تسجيلها في مستشفى المواساة الحكوميّ لإجراء عملية تركيب شبكة قلبيّة، اضطرَّت فائزة، السيّدة الخمسينيّة المريضة بالقلب، لللجوء إلى المستشفى الفرنسي الخاص في دمشق لإجراء العملية فتحكي فائزة لــ موقع لتلفزيون سوريا: "عانيت من انسداد في الشريان الرئيسي المغذي للقلب بنسبة 50% لكنَّ حالتي تفاقمت ووصلت نسبة الانسداد إلى 70% وهو ما اضطرّني إلى إجراء العملية مجبرة في مستشفى خاص ودفعت مبلغ 3 ملايين ليرة ( 830 دولارا أميركيا) كلفة تركيب شبكة واحدة وفوقها مليون ليرة ككلفة إقامة في المستشفى".
وبالرغم من إعفاء المستشفى الحكومي المريض من إيجار الغرفة وأجرة الطبيب المُعالج، لكن في حالة فائزة (تركيب الشبكات القلبية) لا يتكفَّل المستشفى بثمن الشبكات بل يكون على المريض تأمينها، وعن ذلك تقول فائزة: "في جميع الأحوال كنا سنضطر وزوجي إلى الاستدانة، فلا نملك مليوني ليرة سعر شبكة للقلب، ولا نملك 5 ملايين ندفعها في مستشفى خاص، ولم يكن بوسع زوجي سوى الاستدانة من أقاربه المقيمين خارج سوريا على أمل أن نستطيع تسديد ديوننا فيما بعد."
وتتراوح سعر الشبكة القلبية في السوق السورية ما بين 1.5 و 2.5 مليون ليرة (400_700 دولار تقريباً) بحسب جودتها والدولة المصنّعة.
وفي الحين الذي تحظى به فائزة بأقارب يمكنها الاستدانة منهم عند الحاجة، لا تجد عائلة الحاج أبو أحمد (68 عاماً)، وهو نازح إلى ريف دمشق، الذي يعاني من انزلاق غضروفي وركيّ خياراً سوى قصد جمعيات الرعاية الصحية في دمشق وريفها لتأمين كلفة عملية الديسك التي يحتاجها الحاج الستينيّ، فيحدثنا أحمد: "والدي مصاب بالديسك منذ قرابة عشرة أعوام، وكان يعتمد في السابق على المسكّنات والحقن في علاجه، ولكن في الأشهر القليلة الماضية بات عاجزاً عن المشي والحركة، وصار يشتكي من آلام شديدة في ظهره وأمعائه، فأخبرنا الطبيب بحاجته إلى عمل جراحي مستعجل."
ويضيف: " قال الطبيب إنّ كلفة عملية الديسك في المشفى الخاص 4 ملايين ليرة (حوالي 1100 دولار) بينما لا يتوفّر في حوزتنا عُشر ذلك المبلغ. سجّلنا في العديد من الجمعيات الخيرية التي توفر كلفة العمليّة كمار أفرام والعرين لكنّهم إلى الآن لم يتصلوا بنا، واليوم نضطرّ إلى خدمة والدي طيلة النهار وحمله عند دخوله إلى الحمام."
كلفة العمليات تضاعفت عدة مرات
وتشهد كلفة العمليات الجراحية ارتفاعاً غير مسبوق تزامناً مع الانهيار الاقتصاديّ الذي تشهده البلاد وتدهور قيمة الليرة أمام العملات الأجنبيّة، وبحسب باسل (43 عاماً)، طبيب في مستشفى في ريف دمشق، فإنَّ أسعار العمليات تضاعفت منذ عام 2019 بأربعة وخمسة أضعاف، فعملية كالمرارة التي كانت كلفتها 70 ألفاً أصبحت اليوم بـ250 ألف ليرة، بينما تضاعفت العمليات الجراحية المعقَّدة لتصل عمليات جراحة العمود الفقريّ إلى 3 و4 و5 ملايين بحسب الحالة، وتتجاوز عمليات كالقلب المفتوح حاجز العشرة ملايين بحسب الطبيب الجرَّاح والمستشفى المضيف.
ولفتَ نقيب الأطبّاء كمال عامر قبل أشهر إلى نيّة النقابة رفع أجور الطبابة والعمليات الجراحية بحجّة هجرة قرابة 40% من الأطبّاء المسجَّلين في سوريا من جرّاء معاناتهم من انخفاض الأجور وتفاقم الأزمة الاقتصادية.
ومن جهتها صرَّحت رئيسة رابطة التخدير في نقابة الأطبّاء زبيدة شموط الشهر الماضي بأن النقص في أعداد أطباء التخدير في سوريا هو سبب رئيسي في زيادة أوقات انتظار المرضى في المستشفيات الحكومية لإجراء العمليات الجراحية.
نداءات إنسانية
ونتيجة لانشغال المشافي وانهيار القطاع الصحي في مناطق سيطرة النظام السوري والارتفاع الهائل في كلفة العمليات الجراحية، شاعت مؤخّراً ظاهرة جمع التبرعات للمرضى على مواقع التواصل الاجتماعي حيث ينشر كثير من المرضى أو ذويهم أوراقا وتحاليل وتشخيصات طبية طالبين من "أهل الخير" مدّ يد العون والتبرع لهم لإجراء عمليات جراحية قد تصل كلفة بعضها إلى عشرات الملايين.
كحالة شابّة (17عاماً) مُصابة بمرض السرطان وبحاجة إلى عملية زراعة خلايا جذعية بكلفة 40 مليون ليرة سورية (11 ألف دولار تقريباً) وتحت عنوان "نداء إنساني" ناشدت عائلة الشابّة السوريين في الداخل والخارج للتبرع ولو بمبلغ بسيط ليتمكَّنوا من جمع المبلغ المطلوب وإجراء الجراحة لابنتهم.
وحالة "أبو طه" من مدينة القابون في ريف دمشق، حيث تمّ نشر تقرير طبي وصور أشعة لقدمه المُهدّدة بالبتر خلال ثلاثة أيام ما لم يتوفَّر مبلغ 3 ملايين (830 دولارا) لإجراء عمل جراحي عاجل للقدم.
وثالثة لطفلة بعمر السنة والنصف من مدينة اللاذقية بحاجة إلى عملية قلب مفتوح مستعجلة كلفتها 6 ملايين ليرة (1660 دولارا) وإلّا فارقت الحياة، وقد ذُكر في المنشور أنَّ والد الطفلة لا يملك حتّى جزءًا بسيطاً من أجر العملية.
ويشير تقرير لمنظَّمة الصحة العالمية إلى أنّ 11.6 مليون سوري بحاجة إلى الرعاية الصحية. وذكرت المنظَّمة أن 26% من المستشفيات السورية تعاني من نقص في المعدات والموظَّفين أو من مشكلات في البنية التحتية وأنّ 24% من المستشفيات خارجة عن نطاق الخدمة.
"وساطات" ومحسوبيات
تضاعفت في السنوات القليلة الماضية أعداد الجمعيات الخيرية والمنظّمات الإنسانية التي تقدّم خدمات مختلفة للسوريين المتضرّرين بفعل الحرب، لكنَّ الإسهام الإنساني لهذه المؤسسات ظلّ محدوداً لأسباب عديدة أهمّها سوء التنظيم وسيطرة المحسوبيات والوساطات والافتقار إلى العدالة.
وكما الحال مع الإعانات الغذائية والمالية، هناك الآلاف ممَّن يسجلون في هذه الجمعيات للحصول على علاج أو للقيام بعمل جراحي يعجزون عن تسديد كلفته، لكنَّ قلّة قليلة هي من تحظى بالدعم، فيحكي تمَّام (28 عاماً)، طبيب لديه تجربة تطوُّع في إحدى الجمعيات الخيرية في دمشق، لـ موقع تلفزيون سوريا: "تطوّعت في المنظَّمة لإيماني بضرورة المساهمة في إنقاذ كلّ من يحتاج لعلاج أو عمل جراحي وليس بمقدوره التكفّل بمصاريفه، لأصدم بعد أسابيع بتفشّي الفساد في الجمعية، فكثيراً ما كانت تصلنا لوازم طبية وأدوية وأدوات لسنا بحاجتها، لنكتشف فيما بعد أنّها موضوعة على فاتورة إحدى العمليات التي لم نُجْرِها ولم نستقبل مريضها من الأساس."
وعن الحالات التي كانت تصلهم يقول تمّام: " كانت تصلنا يومياً مئات الملفّات لمرضى يحتاجون إلى عمليات جراحية مستعجلة، فنضطرّ إلى اختيار الحالات الأكثر إلحاحاً وخطورة، وفي أحيان أخرى نضطرّ إلى استبعاد حالات حرجة لعدم قدرة الجمعية على تغطية النفقات العلاجية لكلّ المرضى، فنفاضل بين المرضى بحسب العمر والحالة الاجتماعية وغيرها من الاعتبارات."
وتنتشر الجمعيات الخيرية التي تقدِّم خدمات علاجية في دمشق وريفها ومن أبرزها جمعية العرين، والقلبين الأقدسين، وأسرة الإخاء، وحفظ النعمة، وصندوق العافية، والنور.