لا تقتصر الأدوات النقدية عند الروائي والناقد (سليم البيك) في كتابه الجديد (تأملات في الفيلم الفلسطيني) على القدرة التحليلية للأعمال السينمائية الفلسطينية والأفلام التي تتناولها مجموعة نصوص الكتاب، بل أيضاً يملك الرؤية النقدية التاريخية لمسار السينما الفلسطينية التي يربط بين أفلامها وبين أحداث سياسية أساسية في مسيرة الشعب والتاريخ الفلسطيني، ويطرح أيضاً رؤية نقدية لأبرز الامتيازات والإشكاليات التي تعاني منها السينما الفلسطينية في الفترة الراهنة، كما يقدم بعض الاقتراحات المتعلقة بمستقبل هذه السينما.
وإن ضم الكتاب ما يقارب الـ13 نصاً يتعلق بأفلام معينة اختارها الكاتب لتشكل متن كتابه، فإن القسم الأكبر من الكتاب يعالج أسئلة متعلقة بهوية الفيلم الفلسطيني، وأسئلة حول مميزاته الفنية، وأسئلة حول السياقات السردية المرتبطة بالتاريخ والراهن الفلسطيني على المستوى السياسي، الاجتماعي، والثقافي.
ما هي السينما الفلسطينية والسينما السورية المعارضة؟
يكتسب الكتاب أهمية استثنائية عند النظر إليه من منظور الواقع السينمائي السوري المستقل- المعارض، فمعظم الأسئلة المطروحة على السينما الفلسطينية في الكتاب يمكن لها أن تنطبق على تجربة السينما السورية المستقلة- المعارضة التي برزت مع العام 2011:
- متى يكون الفيلم سورياً معارضاً أو مستقلاً؟
- هل هناك سينما سورية مستقلة أم مجرد تظاهرة من عدة أفلام؟
- ما هي الآليات والكيفيات والاحتياجات التي تتطلبها استمرارية هذا المجال السينمائي؟
- أي علاقة يجب ابتكارها عبر المؤسسات السينمائية والجماهيرية التي تسمح بارتباط الأفلام السورية المستقلة بالجمهور وصالات السينما وفضاءات العرض؟
كلها أسئلة يحاول الكتاب الإجابة عنها من منظور تجربة الفيلم والسينما الفلسطينية في التاريخ وفي الراهن، وهي في القسم الأكبر منها تقبل الإسقاط على واقع السينما السورية المستقلة، يكتب الناقد: "لا تزال السينما الفلسطينية بعد مرور أكثر من نصف قرن على الأفلام الأولى لسينما الثورة الفلسطينية، وبعد مشاركات وتكريمات في مهرجانات شرقاً وغرباً على طول تلك العقود، وبعد أسماء لمعت فنياً على مستوى عالمي، لا تزال غائمة من حيث تعريفها أو حتى تحديد معالم لها، شكلاً ومضموناً".
وتشترك السينما السورية المعارضة مع السينما الفلسطينية في سؤال الأمكنة، حيث يتحدث الكاتب عن سينما أمكنة فلسطينية، سينما المنفى: "هي سينما خارجة لا من بيئة متآلفة، بل من بيئات متفاوتة متباعدة، وأساس ذلك كله الحالة الاجتماعية والسياسية والثقافية التي يعيشها الفلسطينيون داخل الوطن وخارجه. وبالتالي تتك التي تعيشها الشخصيات في أفلام الفلسطينيين عموماً". وفي الإجابة عن سؤال ما هي السينما الفلسطينية يمكن العودة إلى ما عبر عنه المخرج (مصطفى أبو علي) في أكثر من موقع بأن الانتماء إلى السينما الفلسطينية هو انتماء فكري ونضالي. فالأفلام الفلسطينية هي التي تعبر عن الثورة الفلسطينية بغض النظر عن هوية صانعها. ويرى الكاتب أن الإجابة على هذا السؤال تستوجب الانفتاح على تعريف ما هو فلسطيني، وهذا التعريف يستوجب الانفتاح على ما كانت تسعه الثورة الفلسطينية وما تسعه اليوم القضية الفلسطينية. فلسطينية الأفلام هي انتماؤها إلى الفكرة الفلسطينية بحسب (إدوارد سعيد).
سينما مرتبطة بالأحداث التاريخية لشعوبها وقضاياها
يقسم الكاتب تاريخ السينما الفلسطينية إلى مراحل مرتبطة بالحكاية الفلسطينية، فبدايةً كانت أفلام الثورة منذ العام 1969 حتى الخروج من بيروت وأفول الثورة من بعده، عام 1982، بصناعة وتمويل جماعي عربي بقدر ما هو فلسطيني أو أكثر. فكان فيلمي كريستيان غازي من لبنان (لماذا المقاومة؟ 1970)، و(مئة يوم لوجه واحد، 1971)، وفيلمي مواطنه رفيق حجار (البنادق المتحدة، 1973) و(أيار الفلسطينيين، 1974). كذلك الحال مع فيلم العراقي قاسم حول (غسان كنفاني الكلمة البندقية، 1973). وكذلك في السينما الروائية، فيلم المصري توفيق صالح (المخدوعون، 1972)، وفيلم اللبناني برهان علوية (كفر قاسم، 1974)، عدا أفلام لمتضامنين أجانب كانت أفلامهم فلسطينية بقدر ما هي إيطالية وألمانية ويابانية، أبرزها فيلم الفرنسي جان لوك غودار (هنا وهناك، 1976)، وفيلم المخرج كوستا غافراس (حنة ك،1983).
ما بعد زمن الثورة، مع بدايات الثمانينات وحتى التسعينيات، تغير شكل السينما الفلسطينية ومضمونها، فصارت آتية من الداخل الفلسطيني مع (عرس الجليل، ميشيل خليفي، 1987)، ثم (حتى إشعار آخر، رشيد مشهراوي، 1994)، (سجل اختفاء، إيليا سليمان، 1996) وهي أفلام روائية طويلة أولى لأصحابها الفلسطينيين. أما ما بعد العام 2000، صارت الضفة الغربية، تحديداً ما بعد الانتفاضة الثانية، مكان التصوير المفضل للفلسطينيين وكذلك للأجانب المتضامنين. أبرز الأمثلة (يد إلهية، إيليا سليمان، 2002)، (الجنة الآن، هاني أبو أسعد، 2005)، (ملح هذا البحر، آن ماري جاسر، 2008)، (المر والرمان، نجوى نجار، 2008) (الزمن الباقي، إيليا سليمان، 2009)، (زنديق، ميشيل خليفي، 2009).
يأتي الاهتمام بتاريخ السينما الفلسطينية من الاهتمام بحاضرها، لأن التلقي للأفلام الفلسطينية، أو فهم السينما الفلسطينية، اليوم، ناقصاً ما لم ندرك بواكير هذه السينما، لا بمشاهدتها وحسب، بل بمعرفتها، المعرفة التي تكون المشاهدة المكون الأساسي لها، وباستيعاب سياقها السياسي والاجتماعي والفني، كمرحلة أولى من سيرورة تصل بنا، تباعاً، إلى الأفلام الفلسطينية الأولى. ومن هنا يذكر الكاتب أهمية الحفاظ على هذا الإرث السينمائي التاريخي، ويذكر في هذا الإطار تجربة تمت في الذكرى السبعين للنكبة 2018، حيث قامت مجموعة بحثية من جامعة (شيفيلد هالام) في إنكلترا بترميم وترقيم خمسة أفلام من سينما الثورة الفلسطينية، وهي جزء من التراث الفلسطيني المستعاد، المساهم في تكوين الراهن من هذه السينما، هوية وسياقات وموضوعات. وفي هذا الإطار يكتب (سليم البيك): "لكن، يبقى السبب الأهم لضرورة الابقاء على التعريف بسينما الثورة هو ردم ذلك الانقطاع الذي طال سيرورة السينما الفلسطينية، بإعادة إدراك أن الإنتاجات الفلسطينية اليوم هي استمرارية لسينما الثورة، أنها، وهذه وتلك، تنقل الحكايات ذاتها للشعب ذاته. كانت الأفلام من خارج فلسطين في السبعينيات وصارت من داخلها منذ الثمانينيات، وذلك بتأثير الاحتلال ذاته، وبتتال زماني وحسب. بذلك، ندرك بشمولية ونسبية، ونتلقى ونقيم، الأفلام الفلسطينية اليوم كسينما كانت يوماً ثورية، شكلاً ومضموناً".
الأدب والدراسات البحثية في مجال الإنتاج السينمائي
يربط الكتاب بين مسيرة الأدب الفلسطيني ومسيرة السينما الفلسطينية في أكثر من موضع في الكتاب، ويتوقف عند أسماء أدبية لعبت دوراً في تشكيل السردية الفلسطينية، ومنهم (غسان كنفاني) في المخيمات وزمن الثورة، (إميل حبيبي) في الداخل وزمن الحكم العسكري، و(جبرا إبراهيم جبرا) في الشتات وأزمنة ممتدة. ويقدم الكتاب لثلاثة مطبوعات دراسية تتعلق بالسينما الفلسطينية فيستعرض مضامينها، من باب الاهتمام بالكتابات البحثية والنقدية في الإنتاج السينمائي الفلسطيني، وهي كتاب (السينما الفلسطينية في أيام الثورة، نادية يعقوب، 2018)، وهو ذو طبيعة أكاديمية يعطي المعرفة حول السينما النضالية الفلسطينية، وكتاب (فرسان السينما سيرة وحدة أفلام فلسطين، خديجة حباشنة، 2020)، وهو يعتمد على الذاكرة الشفاهية وعلى تجربة المؤلفة في أرشفة ما صورته منظمة التحرير، وكتاب (فلسطين في السينما، مجموعة مؤلفين تحرير غي هينبل ووليد شموط، 2022) ويحوي مقابلات ومقالات وبيانات وندوات ينقل النصوص من زمن الثورة وأفلامها بروحها وعبارتها كما كانت، لا بالتذكر الشفاهي ولا الدراسة الكتابية.
الأدب والسينما والفنون في تشكيل السرديات
يموضع الكاتب أهمية الإنتاج الأدبي والسينمائي الفلسطيني بأهمية تشكيل السردية الفلسطينية، ويعيدنا بذلك إلى مجموعة من الكتابات البحثية الخاصة بموضوعة العلاقة بين الفنون والآداب وتأسيس السرديات. منها ما وضحه (إدوارد سعيد) في (الاستشراق) عن الدور الذي قام به الأدب وعموم الأعمال الفنية في التمهيد للاستعمار المادي، فيكتب (سعيد) أن: "الاستشراق توزيع للوعي الجيوسياسي في نصوص جمالية، وبحثية واقتصادية واجتماعية، وتاريخية، وفقه لغوية" ويتوسع (سعيد) في توصيف الاستشراق كوعي أدى أخيراً إلى الاستعمار. كذلك (غسان كنفاني) في كتابه (في صورة الأدب الصهيوني، 1966) بيّن دور الأدب في التأسيس لأسطورة صهيونية حول فلسطين، وبناء الخطاب الصهيوني على التمهيد الذي راكمه الأدب على مدى سنوات. كما كتب (كنفاني) عن (جورج إليوت) وروايتها (دانييل ديروندا، 1876) باعتبارها ترسم خطة عمل، وتدفع نحو صهينة اليهودي واستغلال عقدة التفوق إلى أقصى حد. وسيكرر (هرتزل)، بعد نصف قرن، الموقف ذاته في روايته (الأرض القديمة الجديدة، 1902). فماذا عن السردية الفلسطينية والسردية الثورية السورية؟
يكتب (إدوارد سعيد) في (السلطة والسياسية والثقافة، 2008): "عن الإجبار على الرضوخ لسردية السادة"، قائلاً إن هذه السردية مهيمنة إلى أقصى الحدود، ويضيف: "من الأمور التي حاولت القيام بها، إعادة بناء مسألة السردية بكل قوتها وسلطتها لكشف مدى تفشيها الاجتماعي السياسي في كل مكان. وبعدما فعلت ذلك، بدأت أبحث عن بدائل لها. ليس فقط عن سردية مضادة، كما في حالة إعادة بناء الهوية الفلسطينية بعد عام 1948، مثلاً، والتي طالما أثارت اهتمامي، أو بداية ظهور موقف سياسي فلسطيني بالحصول على إذن بسرد روايته هو، وكل ما إلى ذلك، بل اهتممت أيضاً بإستراتيجيات السرديات المضادة من نوع آخر". ويتحدث (سعيد) عن الحكاية الفلسطينية كسردية مضادة لتلك الإسرائيلية المأسسة على أرض فلسطين، إنما بحكاية مأسسة خارج الأرض في المخيمات، والحكاية المقصودة هنا هي النكبة كمرحلة مؤسسة للهوية الفلسطينية المعاصرة وللثورة والنتاج الفني المتعلق بها.
وللإجابة عن مسألة كيفية تشكيل سردية فلسطينية يتوقف الكاتب عند عدد من الأعمال السينمائية والأدبية التي ساهمت في بناء السردية الفلسطينية، أبرزها نص الروائي والمسرحي الفرنسي (جان جينيه) بعنوان (أربع ساعات في شاتيلا)، فالأديب الفرنسي كان من أول الداخلين إلى موقع المحزرة، وسجل في نص يتوازى جمال الحكي فيه مع بشاعة المحكي، شهادته عن المجزرة. ويربط الكاتب بين نص (جان جينيه) وأفلام مثل فيلم (المحرقة، كلود لانزمان، 1985)، وفيلم (جنين جنين، محمد بكري، 2002)، يكتب (البيك): "خلد النص المجزرة، فلا صبرا وشاتيلا الآن، كما نعرفها، من دون نص جنيه الذي أعكى المساحات البيضاء لحكايات الغائبين، أعطاها وصفاً أدبياً للمجزرة، وصفاً توسل المجازات لنقل الشهادة. حكايات الغائبين لا تعود كذلك، بكتابتها وتصويرها، لا يعود هؤلاء غائبين بهذا النص وذلك الفيلم. ضحايا المجزرتين حاضرون بآلامهم الطازجة، وقد خلدت، الكتابة والتصوير، تلك الطزاجة".
ومن الأعمال السينمائية العالمية التي ساهمت كمحطة سينمائية في بناء السردية هي مساهمة السينمائي الفرنسي (جان لوك غودار) الذي كتب في السبعينيات، وهي الفترة التي أمضاها في (عمان) بين الفدائيين، بياناً سينمائياً فكرياً سياسياً في مجلة (فتح، 1970) شرح في البيان المطول منهجه في صناعة سينما ثورية فلسطينية، وقدم تعريفاً ثورياً للسينما مفهوماً وصناعة ووظيفة. وساهم في (غودار) في: "إنجاز فيلم نضالي سياسي، أو بالأحرى تقريراً سياسياً بعنوان أساليب التفكير والعمل في الثورة الفلسطينية ويقدم تحليلاً سياسياً للثورة الفلسطينية". وحدد (غودار) لفيلمه هدفين: أولهما مساعدة الأشخاص الذين يناضلون بشكل أو بآخر ضد الإمبريالية في بلدانهم المختلفة وثانيهما تقديم نوع جديد من الأفلام، نوع من الكتيب أو المنشور أو الملف، السياسي"، وسيصير فيلمه بعنوان (بين هنا وهنالك، 1976) واحداً من أبرز الوثائق السينمائية التي قاربت الثورة الفلسطينية في السبعينيات، وأبرز الوثائق التي قاربت الفعل الثوري سينمائياً وعالمياً. وكذلك يتوقف الكتاب عند مسلسل (التغريبة الفلسطينية، إخراج حاتم علي) كواحد من الأعمال الدرامية الأساسية التي ساهمت في بناء السردية الفلسطينية.
غياب السردية الروائية السينمائية
وأخيراً، يتطرق الكاتب (سليم البيك) إلى ظاهرة تتماثل فيها السينما الفلسطينية والسينما السورية المعارضة وهي غياب السينما الروائية: "السينما الروائية الفلسطينية في عمومها، ناقصة في صفتها الروائية. هي سينما صور، سينما بقصص متناسخة بتنويعات طفيفة متفاوتة في مستوياتها، سينما أحداث متكررة ومتلاحقة، سينما بلا حكايات. وذلك كله رغم امتلاء قربة الفلسطينيين، منذ النكبة أو ما قبلها بالحكايات"، وغياب الحكائية المعتمدة على كتابة السيناريو: " يمكن، في الحديث عن الأفلام الفلسطينية، عموماً، يمكن ملاحظة عامل مشترك في معظمها، هو ترهل الحكاية فيها، تشتت الحبكة، وتحول الفيلم إلى أحداث بصرية متتالية تعتمد على سياقها الفلسطيني الضامن، إلى درجات معينة، لإثارة هنا ولحظات انعطافية هناك". وهي أيضاً من الظواهر التي تعاني منها السينما السورية المستقلة أو المعارضة.