لعله من البديهي أن يفسح الصراع المحتدم بين الدول الكبرى في لحظاته الساخنة، مجالاً لحركة الدول الأضعف، فهناك إضافة لانشغالها – أي الدول الكبرى - بصراعها الأساسي، حاجتها الملحة في جذب الدول الأخرى للوقوف بجانبها، أو لتحييدها على الأقل كي لا تنخرط مع خصومها في مواجهتها، ومن أجل هذا الجذب أو التحييد، يُقدم التاريخ فرصة لهذه الدول كي تقوّي من حضورها الاقتصادي والجيوسياسي والعسكري، وكي تحمي مستقبلها، ويقدم التاريخ لنا دروساً كثيرة عن حالات كهذه، وخصوصاً في منطقتنا، التي لا ينطفئ صراع فيها حتى يندلع آخر.
لا يكفي لكي تستثمر دولة ما في اللحظة الراهنة من الصراع الأساسي الدائر بين الدول الكبرى، أن يقرر قادتها ذلك، فالأمر ليس قراراً صرفاً رغم أهمية القرار، إنه في جوهره محصلة عوامل متعددة يجب توفرها أولاً، ويجب أن تترافق هذه العوامل مع قيادة قادرة على فهم واستشفاف طبيعة الصراع الأساسي، وتوقع حركته ومآلاته ثانياً.
"الشريف حسين" تعرّض يومها لخديعة كبرى، فمُسخت الدولة التي مُنحت له، وتم تقاسم النفوذ فيها من قبل فرنسا وبريطانيا
في الحرب العالمية الأولى، وعندما حاول "الشريف حسين" أن يستثمر في الصراع بين الدولة العثمانية وبين خصمها البريطاني، وبدأ ينسق مع بريطانيا كي ينهي الاحتلال العثماني للمنطقة العربية، كمقدمة لا بدّ منها لقيام الدولة العربية، وأجرى مراسلات طويلة استمرت ما يزيد على سنة ونصف، عرفت باسم "مراسلات حسين/ مكماهون"، اصطفَّ عل إثرها مع بريطانيا التي تمكّنت حينذاك مع دول أخرى من هزيمة الدولة العثمانية وتقاسم تركتها، لكن "الشريف حسين" تعرّض يومها لخديعة كبرى، فمُسخت الدولة التي مُنحت له، وتم تقاسم النفوذ فيها من قبل فرنسا وبريطانيا، عدا عن قيام بريطانيا وفرنسا باحتلال مباشر لأجزاء واسعة من تلك الدولة التي وعِد بها، والأدهى من كل هذا، كان وعد بلفور وقيام دولة إسرائيل.
لم يكن الشريف حسين قادراً على رفض ما اتفق عليه الطرفان الفرنسي والبريطاني، فيما عرف باتفاق "سايكس- بيكو" رغم الخديعة التي تعرّض لها، فقد كان الطرف الأضعف، وكانت القوة العسكرية التي يقودها غير قادرة على مواجهة أي من فرنسا وبريطانيا، وهكذا رُسم تاريخ هذه المنطقة منذ ما يزيد على قرن، ولا تزال شعوبها تدفع ثمن هذه الخديعة حتى يومنا هذا.
هناك الكثير من التقاطعات بين اللحظة الراهنة في تاريخ هذه المنطقة، وبين تاريخها قبل قرن تماماً، وبغض النظر عن مجمل هذه التقاطعات، فإن التقاطع الأهم والحاسم بينهما، هو أن شعوب هذه المنطقة ومصالحها، هي الغائب الأساسي عن القرار، وعن طاولة حوار القوى المتصارعة، وهذا ما فهمه البريطانيون والفرنسيون جيداً، ورسّخوه عندما تقاسموا المنطقة قبل قرن، فاستثمروا فيه، واستغلوه لصالح احتلالهم، ونفوذهم ومصالحهم.
لا يزال القرار السياسي العربي حبيس أوهام وقرارات الحكام العرب، ولا تزال التبعية، وأوهام العظمة، ومصالح هؤلاء الحكام الشخصية، ووجودهم على كرسي الحكم، هي الركائز الأساسية في قراءاتهم السياسية، وكأن السياسة ليست في جوهرها اقتصاداً وقوة عسكرية، وليست – وهو الأهم – شعوباً حيّة وحرة، وهي وحدها القادرة على صناعة تاريخها، وحماية حاضرها ومستقبلها.
منذ أن استقلت الدول العربية، ومنذ أن أسست جامعة الدول العربية لم يحدث أن اجتمع القادة العرب أو المسؤولون العرب، وكان لنتائج اجتماعاتهم أي حضور على أرض الواقع، وحدها اجتماعاتهم السرية، والتي تتعلق بالتنسيق الأمني، ومراقبة شعوبهم وقمعها، تجد على الفور طريقها إلى التنفيذ، وتُصرف من أجلها الميزانيات الضخمة، وكانت ولا تزال معظم اجتماعاتهم تهتم وتركّز وتسخّر معظم وقت هذه الاجتماعات، على صياغة بياناتهم الختامية، والتي تعيد وتكرر الديباجة نفسها، حول فلسطين والتضامن العربي والمؤامرة الخارجية، ولهذا كانت الشعوب في هذه المنطقة ولا تزال غير مهتمة بهذه الاجتماعات، وإن حدث واهتمت، فإنها تركّز اهتمامها على السخرية منها.
في الاجتماع الأخير لوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق، الذي جرّى في مدينة جدة السعودية، وناقش بشكل رئيسي الملف السوري، فإن أهم ما يلفت الانتباه في هذا الاجتماع، هو أن النظام العربي لا يزال أسير معادلته القاتلة، والتي ستعيد التاريخ مرات عديدة، على شكل مهازل وكوارث فقط، لكأنّنا لم نعِ حتى اللحظة أنه لا تاريخ ولا مستقبل، عندما تُغلُّ الشعوب وتُقمع ويُستهان بآلامها، وكأن سوريا التي اجتمعوا ليقرروا بشأنها، ليست سوى نظام سياسي يمثّله طاغية مستبد، تحيطُ به مافيا لها ارتباطاتها الدولية، ومصالحها المتشابكة مع مافيات أخرى.
لا أدري كيف ستُترجم الدول العربية التي اجتمعت في جدة، ما جاء في البيان الختامي لهذا الاجتماع على أرض الواقع، وماذا يعني القول الذي يسمعه السوريون منذ أكثر من عقد "أن الحل السياسي هو الحل الوحيد للأزمة السورية"، وماذا يعني "هناك دور قيادي عربي في الجهود الرامية لإنهاء الأزمة، ووضع الآليات اللازمة لهذا الدور، وتكثيف التشاور بين الدول العربية، بما يكفل نجاح هذه الجهود"، والأدهى من كل ما تقدم ما معنى القول حول "أهمية قيام مؤسسات الدولة بالحفاظ على سيادة سوريا على أراضيها، لإنهاء وجود الميليشيات المسلحة فيها، والتدخلات الخارجية في الشأن الداخلي السوري"، في الوقت الذي أصبحت فيه هذه الميليشيات والقوى الخارجية، هي صاحبة القرار في مجمل مفاصل الدولة السورية، وأن هذه الميليشيات والتدخلات الخارجية لا تتقاسم الدولة ومؤسساتها فحسب، بل تتقاسم الجغرافيا والسكان أيضاً، وهي كلها أقوى عسكرياً واقتصادياً من كل الأطراف التي اجتمعت في جدة.
ما يفعله النظام الرسمي العربي، يُشبه ما حدث قبل قرن تماماً، وهو إخضاع الشعوب العربية قرناً جديداً لخدمة مصالح الآخرين
لو كان المجتمعون في جدة حريصين فعلاً على سوريا ووحدتها وأمن شعبها، لاستغلوا اللحظة التاريخية الراهنة، وحاجة الدول الكبرى لها في الصراع الدائر الآن، وطالبوا الدول التي تحمي المافيا المسماة "نظام سوري" برفع الغطاء عنه، وتمكين السوريين من الإمساك بقرارهم.
ما يفعله النظام الرسمي العربي، يُشبه ما حدث قبل قرن تماماً، وهو إخضاع الشعوب العربية قرناً جديداً لخدمة مصالح الآخرين، والأخطر من كل هذا، بالنسبة لسوريا التي كانت الملف الأساسي في اجتماع جدة، وهو أن بقاء عائلة الأسد في موقع القرار السوري، لن يؤدي إلا إلى ابتلاع إيران لسوريا.