استيلاء النظام على القسم الشرقي من مدينة حلب، في نهاية عام 2016، فتح الباب على مزيد من الخسائر في الأراضي، وشكّل لحظة مفصلية التقطها بوتين للدعوة إلى اجتماعات أستانا مطلع عام 2017، بالتوازي مع اجتماعات جنيف التي ترعاها الأمم المتحدة، والتي كانت روسيا تحاول إفشالها من خلال دعم تعنت النظام في المحادثات المذكورة.
في البداية، ركزت المحادثات التي جرت بين مندوبي الفصائل العسكرية والنظام برعاية الدول الضامنة الثلاث: روسيا وإيران الداعمين الأساسيين للنظام، وتركيا التي تدعم فصائل المعارضة، على خلق مناطق وقف إطلاق نار مؤقت، لتنتقل عبر جولاتها العديدة (وصلت حتى نهاية تموز إلى العاشرة) إلى ما صار يُعرف بمناطق خفض التصعيد، التي شملت مناطق عدة أهمها: الريف الشمالي والشرقي لحلب ومحافظة إدلب والمناطق الواقعة بين حمص وحماة. وأضيفت إليها مناطق أخرى: الغوطة الشرقية، أما المنطقة الجنوبية فكان لها خصوصية، كونها مجاورة لإسرائيل، فكان الاتفاق بين الأردن وأميركا وروسيا.
بعد عام ونصف على بدء الاتفاقات، حدثت تغيرات كبرى على الأرض في سورية لصالح النظام وداعميه؛ إذ استسلمت الغوطة والرستن بعد حملة عنيفة من روسيا، كان آخرها المنطقة الجنوبية التي تغير الموقف الأميركي منها بشكل دراماتيكي ومفاجئ: من داعم وضامن إلى متفرج وغير معترض على اجتياحها من قبل قوات النظام المدعومة من روسيا، طالما أن "الجارة" المدللة إسرائيل راضية.
وصلت اتفاقات أستانا بعد جولتها العاشرة الأخيرة إلى لحظة تنبئ بالصدام بين أطرافها وخاصة بين روسيا وتركيا
وصلت اتفاقات أستانا، بعد جولتها العاشرة الأخيرة، إلى لحظة تنبئ بالصدام بين أطرافها وخاصة بين روسيا وتركيا، وتحديداً بما يتعلق بمصير إدلب وهيئة تحرير الشام (النصرة) التي تسيطر على حوالي 60 في المئة من المحافظة؛ ما يمكن أن يخلق نتائج كارثية على الناس هناك، حيث لم يبق ثمة مكان للرحيل إليه، الأمر الذي يستدعي ضرورة دخول الغرب والولايات المتحدة بصيغةٍ ما، ضمن هذه الاتفاقات، تشمل المناطق التي تسيطر عليها الولايات المتحدة (شمال وشرق الفرات) مع "قواتها" البرية – قوات قسد- ذات الهيمنة الكردية.
تحاول روسيا بوتين جاهدة أن تتوّج نصرها/ تدميرها للمدن والبلدات السورية، بنصر سياسي تتمكن به من أن تَظهر أمام العالم بأنها -فضلاً عن امتلاكها قدرة كبيرة على التدمير- صانعة سلام، وآية ذلك قيامُها مؤخراً بتقديم مبادرتها المشؤومة لإعادة اللاجئين، تحت شروط لا تحقق أيّاً من شروط ومعايير العودة، طالما أن مصدر التهجير قائم: النظام ومخابراته، كما أنها تسعى لطرح مبادرة لإعادة الإعمار، تلعب من خلالها دور السمسار الأكبر الذي يقوم بتقديم تعهدات جزئية للدول الأخرى التي ستشارك في العملية.
بالطبع، لم تلق مبادرتها الأولى الترحيب إلا من قلة من البلدان الهامشية، مثل لبنان، ناهيك عن عجز روسيا وإيران عن القيام بمهام إعادة الإعمار المكلفة جداً (حوالي 400 مليار دولار)، حيث تُعدُّ هذه الظروف مناسبة للغرب، لتوسيع أطراف أستانا والدخول كطرف وفق شروط جديدة.
مشاركة الدول الأوروبية والغربية عموماً في إعادة الإعمار، مقابل الشروع في عملية انتقال سياسي، تفتح الطريق لحل سياسي معقول للوضع في البلاد، لا يشترط رحيل الأسد، لكنه يقلل من سلطاته واستبداده، من خلال أشكال حكم لا مركزية موسعة، وإطلاق سراح المعتقلين، وفتح الباب أمام تغيير تدريجي وحقيقي، وهو ما يشكل نقطة تقاطع بين الحد الأدنى من مطالب السوريين ومصالح الدول الفاعلة في سورية.
بالنسبة إلى السوريين وسورية لم تعد هناك خيارات جيدة، ولكن هناك خيارات سيئة وأخرى أقلّ سوءاً
كل هذا يجعل من الضروري تجاوز عملية أستانا، من خلال الارتكاز على ما توصلت إليه وتوسيعها عبر صيغة جديدة، تشمل الغرب، والولايات المتحدة والأراضي التي تسيطر عليها، حيث يتم الاعتراف بالمناطق الثلاث القائمة فعلياً: المنطقة الروسية (سورية المفيدة)، والمنطقة التركية (إدلب والريف الشمالي والشرقي لحلب)، والمنطقة الأميركية (شمال وشرق نهر الفرات)، والانطلاق منها نحو حلّ نهائي بإشراف الأمم المتحدة، من خلال استصدار قرار من مجلس الأمن يكرس حالياً المناطق الثلاث، ويمنع الاعتداءات فيما بينها من جهة، ويجعلها قاعدة للاتفاق نحو حل نهائي في محادثات جديدة بديلة لكل من أستانا وجنيف؛ لكون الأولى عملية منقوصة ولا يمكنها الاستمرار من دون الغرب، ولكون الثانية صارت بحكم المتوفاة مع انطلاق محادثات أستانا.
بالنسبة إلى السوريين وسورية، لم تعد هناك خيارات جيدة، ولكن هناك خيارات سيئة وأخرى أقلّ سوءاً، ولربما يكون خيار تجاوز الصيغ الحالية لكل من أستانا وجنيف خياراً قابلاً للحياة من جهة، ويضمن تحقيق الحد الأدنى من مطالب السوريين ضمن الظروف الحالية، وأهمها إضعاف النفوذ الإيراني، الداعم العسكري والبشري للنظام، والشروع بعملية انتقال سياسي، وفق صيغة جديدة من المفاوضات، تكون مخرجاً لأستانا المقبلة على الانفجار، ولجنيف التي لفظت أنفاسها منذ زمن.