لم تكن مدينة دمشق آمنة في أي وقت من الأوقات خلال الـ 12 عاماً الماضية، فقد كانت القبضة الأمنية التي يتعامل بها النظام السوري مع العاصمة شديدة جداً، والحال ينطبق كذلك على الريف المحيط ومعظم المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام بشكل عام.
وتأتي حساسية دمشق كونها العاصمة السياسية للبلاد ومقر حكم النظام، إلا أن القبضة الأمنية المشددة وانتشار الحواجز والصراع بين الفروع الأمنية والاستخبارية على متخلف تسمياتها زادت من نسبة الابتزاز والتهديد وعمليات الخطف والاعتقال التعسفي.
انتشار أمني مكثف
وخلال الأشهر الماضية زاد النظام السوري من عدد قواته في شوارع دمشق ومحيطها، كما كثف من الضغط الممارس على السكان عبر عمليات التفتيش والتدقيق وطلب "الهويات" من ركاب السيارات ووسائل النقل العامة، وكذلك الحال بالنسبة لسائقي الدراجات النارية والهوائية والمارة.
ورغم عدم وجود أي تهديد عسكري أو أمني بارز تواجهه مناطق سيطرة النظام السوري في ظل اتفاقيات وقف التصعيد التي تعيشها البلاد منذ 2020، إلا أن النظام السوري لم يخفف من القبضة الأمنية المشددة خصوصاً في دمشق وضواحيها، إذ ما زالت عمليات الاعتقال جارية على قدم وساق.
ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير لها في آذار الجاري، اعتقال أكثر من 137 حالة اعتقال أو احتجاز تعسفي خلال شهر شباط 2023، تضم القائمة 6 أطفال و3 نساء.
وهناك عشرات الحالات غير الموثقة لأن ذوي الأشخاص لا يعلنون عن الحوادث التي جرت معهم ولا يتحدثون لأحد عن عمليات الابتزاز التي يتعرضون لها خوفاً من التعرض لمضايقات أمنية أو الاعتقال مجدداً.
ما سبب تكثيف الحملات الأمنية بدمشق؟
وقال مصدر مطلع في شرطة دمشق لموقع "تلفزيون سوريا" إن السبب الأساسي وراء تكثيف الأجهزة الأمنية لحملات الاعتقال التعسفي والمراقبة في دمشق هو محاولة النظام السوري لإعادة فرض الهيبة السابقة للدولة قبل 2011 أولاً، وبث الرعب في قلوب الناس ثانياً.
وأضاف أن السبب الأهم الذي لا يتم التحدث عنه بشكل مباشر هو السماح بالتكسب من وراء الاعتقالات والابتزاز، إلى جانب الصراع الأمني بين فروع المخابرات السورية، وهذا أمر معروف وشائع بين أجهزة الأمن في سوريا.
وأشار إلى أن الشرطة فسادها متعلق بالقضايا الجنائية مثل القتل والسرقة والمرور أما أجهزة الأمن ففسادها مختلف تماماً إذ يبدأ من ابتزاز المعتقلين وذويهم وأصدقائهم ولا ينتهي عند سرقة البيوت التي تتم مداهمتها.
14 مليون ليرة
ورصد موقع "تلفزيون سوريا" خلال الأسابيع الماضية ولأكثر من مرة احتجاز قوات المخابرات العديد من الأشخاص من وسائل النقل العامة ونقلهم إلى جهات مجهولة بنفس الأساليب التي كانت متبعة في بداية الثورة السورية.
وقال أبو أحمد، الذي اعتقل ابنه من أحد الحواجز في دمشق قبل أسبوع، إنه افتقد ابنه الذي يعمل في مجال المطاعم قبل 4 أيام، حيث كان ذاهباً إلى عمله في الصباح، ولكنه لم يعد إلى بيته في الساعات المرتقبة له يومياً عند السابعة مساءً.
وأضاف لموقع تلفزيون سوريا: "بالعادة ما بيتأخر من البيت عالشغل ومن الشغل عالبيت يعني متل ما بتعرفي الوضع ما بيسمح أبداً لا مادياً ولا نفسياً لأي شي بالشام، لهيك موصي ابني أنو ما يتأخر أبداً، وبعدين عرفنا من واحد صاحبو بعد يوم كامل أنو اعتقلوه عالحاجز. أقسم بالله كان قلبي لح يوقف، الله يفرج عنه".
ولفت قائلاً: "ابني عمر 23 سنة وحيد، وما عندو خدمة علم، لهيك ما سافر برا البلد متل معظم الشباب، بس في ضابط وعدني مبارح أنو يطلعلي ياه لأنه ما في عليه ملف أمني بس لازم نعطيون 14 مليون ليرة، والله مافي مليون ليرة منهم متوفر معي، حالياً عم حاول أجمع المبلغ أو جزء منه من الأقارب خارج سوريا".
وحالة أبي أحمد هي وضع الكثير من العائلات التي لا تستطيع أن تتحدث للإعلام خوفاً من الاعتقال وجر جميع أفراد إلى أقبية المخابرات التي فيها من التنكيل والتعذيب قصص مروعة.
تأجيل الجيش بـ 200 ألف
ورغم عدم وجود تسعيرة معينة للابتزاز الذي يمكن أن يتعرض له أي شاب على الحواجز العسكرية والأمنية في سوريا، إلا أن أكثر الحالات شيوعاً هو تأجيل الجيش أو (تأجيل الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية) خصوصاً أن السنوات الماضية شهدت انخفاضاً ملحوظاً في إيقاف السيارات والمارة ما جعل الناس في راحة أكبر نسبياً.
وقد يكون الشخص معفياً من الجيش أو يدرس أو متخلفاً عدة أيام عن الالتحاق بالخدمة إلا أن الحواجز تجدها فرصة لاعتقاله وطلب فدية من ذويه مقابل إخراجه، وهذا ما حصل مع عبد الرحيم الذي انتهى تأجيله على الدراسة قبل ثلاثة أيام من الحادثة، وكان يبحث عن حل للتأجيل بأسرع ما يمكن إلا أنه احتجز لـ 7 ساعات حتى استطاعت عائلته إخراجه.
وقال عبد الرحيم لتلفزيون سوريا، إن أحد حواجز ضواحي دمشق طلب منه الهوية ثم طلبوا منه النزول من السرفيس، وتعرض لضرب مبرح لأنه رد على العسكري بأنه غداً سيحضر تأجيلة جيش جديدة.
وأضاف أن الضابط في المفرزة الأمنية قرب الحاجز قال لي اتصل بوالدك واطلب منه أن يأتي لاصطحابك بـ 250 ألف ليرة، وغداً تذهب وتجلب التأجيلة الجديدة.
وتابع: "بالفعل بعد 7 ساعات وصل والدي ومعه 200 ألف ليرة فقط وترجى الضابط حتى سمح له باصطحابي للمنزل، يعني كان لح يروح مستقبلي لأجل 200 ألف ليرة على حاجز".
ولفت إلى أنه سمع من الشباب المحتجزين أن البعض يسألونهم عن عمل الأهل، فإن كانوا ميسوري الحال يطلبون مبلغاً أكبر، قد يصل إلى مليون ليرة سورية مقابل الشخص الواحد، أما الحالات الفقيرة فتبدأ من 200 ألف ليرة.
وبعض الضباط لا يدخلون في قصة الابتزاز المباشر إلا عبر وسطاء أو سماسرة يتصلون بذوي المحتجزين خوفاً من أي ملاحقة قضائية لأي شخص له صلة بأجهزة مخابراتية.
ويعمل السماسرة بشكل احترافي عبر الاتصال وطلب موعد للقاء الأهل والتفاوض لأجل المبلغ الذي قد يصل لآلاف الدولارات مقابل عودة أبنائهم سالمين.
عمليات مداهمة
ولا تقتصر الاعتقالات على الحواجز المتمركزة في مناطق محددة من دمشق وريفها بل كذلك الأمر على الحواجز المفاجئة (الطيارة) وفي عمليات مداهمة البيوت والمحال التجارية.
وما زالت الاعتقالات متصلة بالمجريات السابقة خلال الثورة السورية إما لصلة قرابة بأحد الأشخاص الذي كانوا في الجيش الحر أو المعارضة السياسية أو معتقلين سابقين.
ويخشى السوريون من مجرد احتمالية اعتقال أي شخص لأن الداخل إلى المعتقل بالغالب لا يعود حياً، خصوصاً خلال السنوات الـ 12 الماضية، والتي فقدت فيها سوريا عشرات آلاف المعتقلين تحت التعذيب.
والعائلة التي لا تدفع رشوة لإخراج ابنها من المعتقل قد يحول للمحاكم بتهم جاهزة مثل الإرهاب أو تمويله الذي ينتهي بأحكام تصل للمؤبد أو الإعدام، وكذلك الحوالات بطريقة غير مشروعة التي تبدأ بسرقة جميع الأموال وإحالة المعتقلين للسجن.