عندما غزت القوات التي قادها السوفييت تشيكوسلوفاكيا في عام 1968، كانت العملية سهلة، إذ لم يواجه الغزاة من المقاومة سوى القليل، ثم تم نقل رئيس البلاد إلى موسكو في اليوم الثاني للحرب، فتقبل الغرب ما جرى رغماً عنه. حسبما يرى المؤرخ سيرغي راديشكينوف الذي يعلق على ما يجري بقوله: "أما ما نراه اليوم في أوكرانيا فهو لعب بطريقة مختلفة تماماً".
تتمركز غالبية القوات الروسية الآن على بعد 25 كلم من مركز العاصمة كييف، ومن المرجح أن تقوم بمحاصرتها خلال الأيام المقبلة. كما اخترقت القوات الروسية الخطوط الأوكرانية في الجنوب، وتوجّهت غرباً نحو أوديسا التي تعدّ ميناء مهماً، إلى جانب توجهها شمالاً نحو قلب البلاد، حيث يمكنها محاصرة القوات الأوكرانية في الشرق. في حين تعرضت مدينة خاركيف التي صدّت هجمات عديدة خلال نهاية الأسبوع، لقصف عنيف يوم الاثنين الماضي.
ولكن بالرغم من كل ذلك نجد آلة الحرب الروسية تترنح وتعاني، وذلك لأن الأمور تغيرت عمّا كانت عليه في عام 1968، إلا أن أداءها ظل أسوأ من أدائها في جورجيا في عام 2008 بحسب ما يراه كونراد موزيكا، وهو محلل سياسي مختص بقضايا الدفاع، وذلك لأن تلك الحرب دفعت لقيام إصلاحات كبيرة داخل القوات المسلحة الروسية، لكن تلك الإصلاحات لم تكن شاملة بما فيه الكفاية. إذ تظهر الصور القادمة من أوكرانيا هياكل مشوّهة لمدرعات عسكرية روسية، في حين يظهر مقطع فيديو لما جرى عقب الكمين الذي نصب لرتل عسكري روسي بالقرب من مدينة سومي الواقعة شمال شرقي البلاد يوم الأحد الماضي، خسارة تقدّر بأكثر من عشر عربات مصفحة، بينها دبابتان، ومدفع قاذف، لذا فالسؤال المطروح هنا هو: هل هذه المشكلات مؤقتة أم أنها تشير إلى حالة فساد أعمق بوسع أوكرانيا أن تستغلها؟
تبدو الأمور اللوجستية أكبر مشكلة تعاني منها روسيا، إذ بحسب ما ذكره مسؤول غربي فإن روسيا تعاني من مشكلات محددة تتصل بقطعات الهندسة لديها، فقد فجرت أوكرانيا العديد من الجسور، ولهذا لم تستطع روسيا أن تأتي بقطعات الجسور عبر الطرق المزدحمة. كما تركت دبابات ومركبات روسية أخرى على قارعة الطريق، سواء بسبب تعطلها أو بسبب نفاد الوقود منها، ما يعني أن خطوط الإمداد قد استنفدت طاقتها، كما لم تعد وحدات الدعم قادرة على المتابعة والمواكبة. وهكذا تحولت القطعات التي تقطعت بها السبل إلى أهداف سائغة للكمائن، بما أن القوات الأوكرانية لم تعانِ من أي نقص في الأسلحة اللازمة لاستهداف تلك القطعات، بعدما أصبحت كل من الدنمارك ولوكسمبورغ وفنلندا من أواخر الدول الأوروبية التي أعلنت عن نيتها تزويدَ أوكرانيا بآلاف الصورايخ المضادة للدبابات وذلك خلال الأيام القليلة الماضية.
لم تستطع روسيا تأمين الأجواء أيضاً، إذ يعتقد مسؤولون غربيون بأن الصواريخ الروسية يمكن أن تمسح الدفاعات الجوية الأوكرانية عن بكرة أبيها خلال الساعات الأولى من الحرب، على الرغم من أنها تضم شبكة من الرادارات وصواريخ أرض-جو، فإن الضربات كانت أخفّ مما هو متوقع بكثير، ولعل السبب في ذلك يعود إلى الرغبة في توفير الذخائر التي تتمتع بدقة كبيرة إلى أكبر حد ممكن. ونتيجة لذلك، لم تستخدم روسيا كثيرا من طائراتها الحربية حتى الآن، بالرغم من أن مقطع فيديو انتشر مؤخراً يظهر طائرة سوخوي-34 قاذفة للقنابل وهي تحلق فوق خاركيف وكذلك في جنوبي أوكرانيا.
إن عدم ظهور أي تفوق جوي سيكون له تداعيات كبيرة، أولها عدم توفر دعم جوي ملائم من جهة معينة بالنسبة للجنود، إذ يعدّ ذلك بمنزلة نقطة ضعف تاريخية بالنسبة لروسيا وذلك بسبب ضعف التنسيق بين القوات البرية والجوية بحسب رأي الخبير غاي بلوبسكي المتخصص بالقوة الجوية لروسيا. أما التداعيات الأخرى فتتمثل في أنه صار بوسع أوكرانيا أن تحتفظ بمزيد من الطائرات بما أن روسيا لم تغز الأجواء بطائراتها المقاتلة، وهدف روسيا من ذلك هو الاقتصاد في استخدام الصواريخ، ما يعني أنها تضرب فقط بضع نقاط ضمن المطارات والقواعد الجوية، بدلاً من تدمير تلك القواعد بشكل كامل. كما أن أوكرانيا تستخدم طائرات مسيرة من طراز TB2 تركية الصنع لتنفذ غارات قاتلة على مواقع يُحتمل تمركز القوات الروسية فيها، والتي تبدو وكأنها ليست لديها أدنى فكرة حول ما يجري فوقها. ولهذا يعتقد عدد من الخبراء بأن تلك الطائرات ستستخدم بعد مرور أربعة أيام على الحرب.
تشير كل تلك الأمور إلى عيوب عميقة في التكتيك، ففي الحروب الحديثة، من المفترض أن تتعاون عناصر مختلفة تشمل المشاة والمدرعات والمدفعية والدفاع الجوي وقطعات الهندسة والحرب الإلكترونية، لتسد كل منها عيوب الأخرى ونقائصها، إذ يمكن للدبابة مثلاً أن تمد المشاة بقوة نارية في حال تقدمها، وبالمقابل، يمكن للمشاة الترجل والبدء بمطاردة التشكيلات المضادة للدبابات. إلا أن روسيا تخلط كل تلك الأمور ببعضها، وفي بعض الحالات، تقترب تكتيكاتها من العمليات الانتحارية، إذ يظهر مقطع فيديو تم تصويره في بوتشا وهي مدينة تقع شمال غربي كييف، مركبة مصفحة روسية وهي تقوم بنشر الدعاية الروسية وتوجيه المدنيين بالتزام الهدوء، في حين يتوجه رجل يحمل قنبلة يدوية نحو تلك المركبة ليقوم بتدميرها بكل هدوء هو أيضاً!
لعل أهم سبب يكمن خلف تلك الأخطاء الفادحة يتمثل في عدد الجنود الذين تم نشرهم، إذ خلال الغزو الأخير لأوكرانيا الذي تم ما بين عامي 2014-2015، لم ترسل روسيا أكثر من 12 مجموعة تكتيكية تابعة للكتائب ضمت جميعها ألف جندي، لكنها هذه المرة قامت بإرسال أكثر من مئة مجموعة تكتيكية، فأتت النتيجة على شكل مجموعات تكتيكية مخففة، وصفها أحد ضباط المدرعات الأميركية بقوله: "لم يكن أداء الوحدات الاستخبارية التي تقوم عادة بالتقاط الإشارات التي تصدرها مسيّرات بيرقدار من نوع TB2 وهي تحوم في السماء، وكذلك قوات المدفعية التي تخفف من حدة الدفاعات الأوكرانية كأدائها في عام 2015، وذلك نظراً لعدم توفر ما يكفي من الأعداد لتنتشر ضمن كل مجموعة من مجموعات التكتيك، لذا فإنك الآن تقوم باستبقاء أفضل العناصر لديك حتى تعدّ رغيفاً أكبر بكثير".
ثمة مؤشرات تدل على ضعف الروح المعنوية لدى بعض تلك القطعات الروسية، إذ يظهر أحد مقاطع الفيديو رتل دبابات وهو يعود القهقرى على عجل بعدما تعرض لمواجهة مع مدنيين عزل. ولهذا يقول ديما آدامسكي وهو خبير بالقوات المسلحة الروسية بأنه دهش من الأعداد الغفيرة من المجندين الصغار، إذ قد يحسّ هؤلاء بالارتباك والتشوّش حيال ما إذا كان خصومهم الأوكرانيون عبارة عن إخوة تربطهم روابط روحية وإنسانية وحضارية، كما سبق لفلاديمير بوتين أن أورد في مقالة نشرت الصيف الماضي، أم أنهم أداة بيد النازيين من مدمني المخدرات، كما وصفهم بوتين مؤخراً وهو يرغي ويُزبد. وفي مدينة بيرديانسك الساحلية التي سقطت بيد الروس يوم الأحد، خرج الأهالي باحتجاجات صريحة في الشوارع ضد قوات الحرس الوطني الروسية.
ولهذا خلص بعض المسؤولين الغربيين والخبراء العسكريين إلى أن الجيش الروسي ما هو إلا نمر من ورق، حيث يقول ب.أ. فريدمان وهو محلل عسكري وضابط احتياط في فيلق سلاح مشاة البحرية الأميركي: "إن هذا ليس بجيش جيد ينفذ خطة سيئة... أو تكتيكات خارج السياق، بل إنه جيش رديء!" في حين أبدى محللون آخرون حذرهم وتحفظهم، إلا أنهم ذكروا بأنه يمكن للتكتيكات الروسية أن تتكيف وتصبح أفضل خلال الأيام والأسابيع المقبلة، كما أن الشعب يلتفّ حول القيادة ويؤيّدها، ولكن ينبغي على روسيا أن تنشر ربع قواتها على حدودها مع أوكرانيا، بحسب ما يراه مسؤولون أميركيون، إذ هنالك رتل عسكري روسي تم نشره على مسافة تبعد عن العاصمة كييف مسافة 27 كلم جنوباً، ويمتد لـ27 كلم أخرى على الطريق بحسب ما التقطته صور الأقمار الصناعية. ويعتقد المسؤولون الأميركيون بأن الكرملين أرسل إلى أوكرانيا مقاتلين من مجموعة فاغنر، وهي عبارة عن جماعة مرتزقة مرتبطة بالكرملين.
حتى الآن، بذلت روسيا كل ما في وسعها لتجنب وقوع ضحايا بين صفوف المدنيين مقارنة بما فعلته في حملتها الجوية التي شنتها في سوريا، وبصورة فاقت التوقعات عند بداية النزاع، وذلك بحسب رأي المحلل آدامسكي، إلا أنه حذر من أن الحرب قد تدخل "مرحلة أبشع"، وهذا ما نراه جلياً في خاركيف، بعدما أخذت الصواريخ والذخائر العنقودية تستهدف المناطق السكنية، فتسببت بأضرار واسعة لحقت بمبان بكاملها، كما تظهر الصور الجثث وقد انتشرت في الشوارع، إذ يشير ظهور طائرات سوخوي-34 القاذفة للقنابل إلى أن هذه المدينة ستتعرض لقصف جوي قريباً، بما أن رهان بوتين على حرب سريعة قد باء بالفشل، ولهذا نجده اليوم وقد أعد العدة لخوض حرب أكثر قتامة وأشد تجهماً.
المصدر: إيكونوميست