خلال الأيام السوداء التي بلغ عددها مئة والتي بدأت منذ أن هاجمت حماس إسرائيل في السابع من تشرين الأول الماضي، سعى الرئيس الأميركي جو بايدن لمساعدة إسرائيل في كسب الحرب على غزة، ومنع النزاع من التحول إلى حرب إقليمية تدخل فيها إيران وأذرعها، ولكن زادت صعوبة الأمر بعد تورط محور المقاومة التابع لإيران مع إسرائيل وأميركا في غارات ضد بعضهما باتت أشد خطورة، كونها شملت حالات اغتيال.
ورطة حقيقية
أطلق حلفاء إيران في العراق وسوريا نحو 140 هجمة صاروخية وهجمات بمسيرات ضد القوات الأميركية منذ بدء الحرب على غزة، لعل أعنفها ما وقع في العشرين من الشهر الجاري، عندما استهدف وابل من قذائف وصواريخ بالستية قاعدة عين الأسد في غربي العراق، وذلك بحسب ما أعلنته القيادة الأميركية الوسطى. فيما ذكرت تقارير بأن بطاريات باتريوت التابعة للدفاع الجوي اعترضت معظم تلك الصواريخ، لكنها أصابت القاعدة، مما تسبب بإصابة عدد من الأميركيين والعراقيين بحالات ارتجاج دماغي أو بجراح. ومنذ ذلك الحين انتقمت أميركا من وكلاء إيران في المنطقة، بيد أن بايدن سيتعرض اليوم لضغوط متزايدة حتى يتخذ إجراء أقسى ضد إيران نفسها، وفي ذلك ورطة حقيقية: لأنه إن لم يفعل شيئاً فستبدو أميركا بموقف الضعيف، أما إذا انتقم فعندها سيخاطر الرئيس الأميركي بفتح حرب جديدة خلال السنة التي ستشهد فيها أميركا انتخابات رئاسية.
استهداف حوثي اعتباطي
وفي هذه الأثناء شنت أميركا غارتها السابعة على حليف آخر لإيران في اليمن ألا وهو ميليشيا الحوثي التي تسيطر على معظم أنحاء البلد، وذلك في محاولة لوقف استهدافها بالصواريخ للسفن التي تعبر مضيق باب المندب، فيما ذهب الحوثيون للقول بأنهم يفعلون ذلك نصرة لإخوتهم الفلسطينيين وبأنهم يستهدفون السفن التي تبحر إلى إسرائيل أو البوارج الحربية الغربية، بيد أن استهدافهم لتلك السفن اعتباطي، على الرغم من الأخبار التي تفيد بأنهم حصلوا على مساعدة من عناصر تنتمي للحرس الثوري الإيراني، وذلك حتى يتمكنوا من تحديد هوية السفن واستخدام الأسلحة.
يعترف بايدن بلسانه بأن الغارات الأميركية لن تكف يد الحوثيين عن فعل ما تفعله، بيد أن الأخبار التي نشرت في صحيفة واشنطن بوست ذكرت بأن إدارة بايدن وضعت مخططات لحملة عسكرية طويلة على اليمن، على الرغم من الشكوك التي تساور بعض المسؤولين حيالها.
لعبة توازن خطرة
وفي هذه الأثناء، يقوم أقدم وأقوى حليف إقليمي لإيران، أي حزب الله في لبنان، بتبادل إطلاق النار مع القوات الإسرائيلية، وهدفه المعلن دعم حماس، من دون أن يلقي بنفسه في أتون حرب ضد إسرائيل. وقد أسهمت إدارة بايدن في ثني إسرائيل عن شن هجوم استباقي ضد حزب الله فور وقوع هجمات السابع من تشرين الأول، لكن إسرائيل لوحت بعمل عسكري في لبنان في حال فشل الدبلوماسية بإقناع قوات حزب الله بوقف استهدافها لإسرائيل والابتعاد عن المنطقة الحدودية.
وبذلك صارت أميركا وإيران تلعبان لعبة توازن خطرة، فلقد ساعدت إيران حلفائها في محور المقاومة على شن هجمات تهدف لإضعاف إسرائيل وطرد أميركا، وتشويه سمعة الدول العربية التي أقامت سلاماً مع إسرائيل أو سعت لذلك. ومن جانبها، تورطت أميركا في عملية انتقامية محدودة، في الوقت الذي تجنب فيه كلا الطرفين الاشتباك المباشر، بيد أن هذا التوازن قد يختل في أي لحظة.
ومن الأمور التي تساعد على ذلك شن إسرائيل لحرب لم تعد تخفى على أحد ضد إيران وحلفائها، إلى جانب مواجهاتها الصريحة مع حماس وحزب الله. إذ في أواخر كانون الأول، قتل قائد عسكري لدى الحرس الثوري في غارة جوية إسرائيلية نفذت بدمشق، وبعد أسبوع على ذلك، اغتيل صالح العاروري القيادي في حماس بغارة نفذت في معقل حزب الله بجنوبي بيروت، وفي العشرين من الشهر الجاري، قتل خمسة عناصر من الحرس الثوري في دمشق، بينهم حجة الله أوميدفار، رئيس قسم الاستخبارات في سوريا لدى فيلق القدس، وفي الرابع من الشهر الجاري، قتلت أميركا مشتاق الجواري وهو أحد القادة في حركة النجباء العراقية المتورطة في هجمات استهدفت قوات أميركية، وذلك بغارة نفذتها مسيرة على مقره في بغداد.
أما في الداخل، فقد هزت سلسلة هجمات إرهابية النظام الإيراني خلال هذه الفترة، كان من بينها تفجيران انتحاريان أعلن تنظيم الدولة الجهادي مسؤوليته عنهما، وأسفرا عن مقتل مئة شخص وذلك بالقرب من قبر قاسم سليماني الذي اغتالته أميركا في عام 2020، إلى جانب مقتل ما لا يقل عن 11 شرطياً في محافظة بلوتشستان الشرقية المتوترة على يد جماعة بلوشية وهي جماعة جيش العدل ومقرها باكستان.
ضرورة استعادة الردع
دعا القائد الأعلى لإيران، آية الله علي خامنئي القوات الإيرانية للتحلي بما أسماه الصبر الاستراتيجي، في حين يرى علي واعظ من مجموعة الأزمات الدولية بأن النظام الإيراني بات يحس اليوم بالحاجة إلى "استعادة حالة الردع" وعودة سيطرته على مجريات الأمور.
ولهذا أطلق النظام الإيراني خلال الأسبوع الماضي صواريخ على ثلاث دول مجاورة استهدفت "جماعات إرهابية" في سوريا وباكستان، وقاعدة تجسس إسرائيلية في كردستان العراق بحسب زعمه، بيد أن الهجوم على باكستان استدعى غارة صاروخية انتقامية نفذت ضد إيران، ويبدو أن كلتا الدولتين قد تراجعتا الآن عن بلوغ شفير الحرب، ومايزال الإيرانيون برأي واعظ يكرهون المخاطرة، لأنهم حسب رأيه: "يريدون أن يغيروا الفكرة عنهم التي ترى بأنهم أصبحوا في موضع خطر، ولكن في الوقت ذاته ثمة فكرة ترى بأن إسرائيل هي من نصبت الفخ لهم، إما لتبرر توسع الحرب أو لتجر الولايات المتحدة إليها".
بالنسبة لإدارة بايدن، يصر المسؤولون بأنهم لا يريدون حرباً إقليمية، إذ في عام 2020، أصدر سلف بايدن، أي دونالد ترامب، أوامره بقتل سليماني رداً على الهجمات التي استهدفت قوات أميركية على يد ميليشيات موالية لإيران، ونجم عن ذلك وابل من القصف بالصواريخ البالستية الإيرانية التي استهدفت قاعدة عين الأسد على غرار الوابل الذي استهدفها مؤخراً، بيد أن ترامب لم يبد أي رد عقب ذلك.
مشكلة بلا حل
بقي بايدن يتحلى بالحذر حتى الآن، فهو لا يريد أن ينجر لحرب في الشرق الأوسط في وقت تتعرض فيه أميركا لضغوط بسبب دعمها لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، وتحاول أن تمنع وقوع حرب أخرى ضد الصين بسبب تايوان، كما أن بايدن يسعى لإعادة انتخابه خلال هذا العام.
وفي العراق وسوريا، نجد بأن القوات الأميركية ردت بعدد يقل بكثير عن عدد الهجمات التي تعرضت لها، ويتكرر الأمر نفسه في اليمن، حيث حجمت أميركا نفسها ضمن إطار إسقاط الصواريخ والمسيرات التي تهدد إسرائيل أو السفن العابرة، وإصدار تحذيراتها وتأمين صدور قرار داعم من مجلس الأمن قبل ضرب الحوثيين مباشرة.
وعن ذلك يقول هارون ديفيد ميلر من معهد كارنيجي للسلام الدولي بواشنطن: "تعلم الإدارة بأن أمامها مشكلة بلا حل، وليس بوسعها إلا أن تحاول حلها".
تقتصر أقصى طموحات بايدن اليوم على كسب إسرائيل للحرب في أسرع وقت، أو على الأقل إنهاء حربها في غزة، وبالتالي الحد من حالة السخط والغضب التي تعم المنطقة. بيد أن إسرائيل لم تقمع حماس ولم تسترجع أسراها، ولهذا لم تبد ما يشير إلى استعدادها لوقف الحرب، ولكن بعد تجاوز عدد الضحايا الفلسطينيين لعتبة 25 ألفاً صارت بعض الجهات تتهم إسرائيل بالإبادة، في وقت رفض فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، رفضاً قاطعاً دعوة بايدن لإقامة دولة فلسطينية مستقبلاً.
في الوقت الذي يحاول بايدن السيطرة على حلبة النزاع في الشرق الأوسط، يرى ميلر بأنه لم يعد يفصله عن الحرب الإقليمية سوى حادث مؤسف أو هجوم إرهابي واحد، ويضيف: "في حال استمر الوضع كذلك، وتسببت إحدى الغارات بمقتل عدد كبير من الأميركيين، فإن الإدارة لن يكون أمامها أي خيار سوى أن تضرب الحرس الثوري الإيراني".
المصدر: The Economist