إن كنت تخال بأن الشرق الأوسط يعيش حالة جمود، فعليك أن تعيد النظر برأيك، وذلك لأن اقتصاد دول الخليج أضحى الأغنى والأشد حيوية على مستوى العالم بفضل سعر نفط برنت الخام الذي قفز ليتجاوز عتبة التسعين دولارا للبرميل الواحد خلال هذا الأسبوع، وهنالك 3.5 تريليون دولار من الوقود الأحفوري تصرف على كل شيء بدءاً من نماذج الذكاء الاصطناعي المطورة محلياً، مروراً بالمدن الجديدة البهية التي تقام وسط الصحراء، وصولاً إلى صناديق الثروة السيادية الضخمة المترعة بالأموال والتي صارت تجوب الأسواق العالمية لرأس المال بحثاً عن فرص وصفقات.
مع تدفق الأموال، ظهرت بوادر لتراجع الفوضى، وذلك بفضل تسيد الدبلوماسية للمشهد طوال عقود، فلقد تفاوضت السعودية وإيران للتوصل إلى انفراج في علاقتهما القائمة على التنافس منذ قيام الثورة الإسلامية الإيرانية في عام 1979. كما تراجع عداد القتلى في حربي سوريا واليمن، بما أن ممولي هذين النظامين باتوا في سعي دائم لخفض التصعيد. وبعد الاتفاقيات الإبراهيمية التي عقدت بين إسرائيل وبعض الدول العربية، أصبحت السعودية الآن تفكر بالاعتراف بالدولة اليهودية، بعد مرور 75 عاماً على تأسيسها. أما نفوذ هذه المنطقة على المستوى العالمي فآخذ بالازدياد، إذ توشك أربع دول في المنطقة على دخول محور البريكس الذي يضم دولاً لا تنحاز لأي طرف وتسعى نحو عالم تضعف فيه هيمنة الغرب على كل شيء.
إن هذه التبدلات تفتتح فصلاً جديداً في الشرق الأوسط يتسم بفرص وتهديدات جديدة، إذ يجرب زعماء المنطقة أفكاراً انتشرت في معظم دول العالم، ومنها اعتناق البراغماتية الاستبدادية كبديل عن الديمقراطية، والدبلوماسية ذات الأقطاب المتعددة بدلاً من النظام العالمي الذي تقوده أميركا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945. فقد تحول الشرق الأوسط إلى مكان يمكن للمخاطر التي قد تهدد العالم بأسره في العشرية الرابعة من الألفية الثالثة أن تظهر فيه مبكراً، ومن بينها انتشار السلاح النووي، والظروف المناخية القاسية، وانعدام المساواة بين البشر بشكل أكبر، في الوقت الذي تزداد فيه الدول الضعيفة ضعفاً وتخلفاً عن الركب.
غادر كثير ممن سكنوا البيت الأبيض منصبهم وهم يحلمون بنسيان كل ما يتعلق بالشرق الأوسط، ولكن سواء أكنت تدير دولة عظمى أو مشروعاً صغيراً، سيبقى الشرق الأوسط يهم الجميع أكثر من ذي قبل، إذ على الرغم من أنه يحوي 6% فقط من سكان العالم، فإنه يسيطر على الاقتصاد العالمي، وبما أن هذه المنطقة تعتبر من أرخص المناطق المصدرة للنفط، نجد بأن حصتها من الصادرات الخام تتجاوز 46%، أما نصيبها من الغاز الطبيعي المسال الذي زاد الطلب عليه كثيراً منذ أن أغلقت روسيا خطوط الغاز لديها دون أوروبا، فأصبح يزيد على 30%. وبفضل الموقع الاستراتيجي للشرق الأوسط، فإن 30% من التجارة البرية و16% من الشحن الجوي يمر بها. وبوجود أصول لها تصل قيمتها إلى ثلاثة تريليونات دولار أميركي، لذا أصبحت صناديق الثروة السيادية فيها من بين أكبر الصناديق في العالم. أما حروب المنطقة والفوضى المنتشرة فيها فغالباً ما تقطع الحدود لتصل إلى أماكن أخرى، ويؤثر اللاجئون القادمون من الشرق الأوسط على سياسات دول كثيرة، قد تكون بعيدة، كأوروبا مثلاً.
كان العقدان الماضيان تعيسين على الشرق الأوسط، فقد انتهت المشاريع الديمقراطية بالفشل وسفك الدماء، وذلك في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، وفي عدد من الدول عقب ظهور الربيع العربي عام 2011. كما أخذ تنظيم الدولة الإسلامية يقتل كل من يقف في طريقه لإنشاء دولة الخلافة، في حين خنق بشار الأسد شعبه في سوريا بغاز الكلور وغاز الأعصاب.
تغيرات جوهرية جديدة
ولكن مع انحسار القتال اليوم، أخذت تغيرات كبيرة تظهر في الأفق، أولها أن المنطقة أصبحت تتحمل مسؤولية أمنها بنفسها، مع تراجع شهوة أميركا بالتدخل عسكرياً في المنطقة. وإلى جانب ذلك، أصبحت الأنماط التجارية فيها متعددة الأقطاب، إذ يعتقد صندوق النقد الدولي بأن 26% من صادرات السلع في الشرق الأوسط تذهب إلى الصين والهند، أي ما يعادل نسبة الضعف تقريباً عما كانت عليه في عام 2000، ونحو ضعف الحصة المخصصة لأميركا وأوروبا. أما عملية إعادة ترتيب الأمور على الصعيد الجيوسياسي فقد أدت لظهور رغبة قوية بخفض التصعيد في النزاعات.
ثانياً: خلق التحول في مجال الطاقة حاجة ماسة للابتعاد عن النمط المعهود من الطفرة النفطية التي يعقبها حالة كساد، إذ ظهر عوضاً عن ذلك دافع شديد لدى الدول الخليجية لرفع إنتاجها من الوقود الأحفوري خلال العقد المقبل وذلك قبل أن يتراجع الطلب عليه بشكل دائم، مع السعي لإنفاق العوائد على تنويع مصادر الاقتصاد المحلي.
أما التحول الأخير فيتمثل بالتململ الذي يسود الرأي العام، بعدما أثبتت التجارب السياسية فشلها سواء أكانت ديمقراطية أم إسلامية، ولهذا أصبحت شعوب الشرق الأوسط تتوق لفرص اقتصادية أكبر، إذ تظهر استطلاعات الرأي بأن أولى الدول التي تعجب الشباب العربي هي دولة الإمارات، وذلك بفضل استقرارها واقتصادها المزدهر في ظل حكم عائلي يمسك بالسلطة بقبضة حديدية. وفي الوقت ذاته، نكتشف بأن تراجع التدخل الغربي بأمن المنطقة وتجارتها يعني أيضاً انحسار الضغط من أجل حماية حقوق الإنسان أو الديمقراطية.
ثم إن بعض التغيرات في المنطقة أصبحت مدعاة للسخرية، ومنها ذلك المشروع الذي خلق للتباهي فقط أي مشروع نيوم والذي يسعى لبناء مدينة مبهرجة جديدة بكلفة تقديرية تصل إلى 500 مليار دولار، أما من وضع هذا المشروع فهو محمد بن سلمان، الحاكم بأمره في السعودية، وفي الوقت ذاته نكتشف ظهور تغيرات أعمق وأكثر ديمومة في الشرق الأوسط، إذ زاد عدد النساء العاملات في الخليج، كما أصبح السياح الإسرائيليون يتقاطرون على دبي، وفي عموم المنطقة، أصبح اقتصاد الدول غير النفطية في طور النمو بنسبة سنوية صحية تعادل 4% كما زادت استثمارات المنطقة في الخارج، لذا بات بوسعنا تخيل شكل الحلقة الفعالة التي يؤدي فيها الاستقرار والسلام لمزيد من الاستثمارات والتجارة، وهذا بدوره سيؤدي إلى رفع مستوى المعيشة ويزيد من حالة الرخاء ويغير دوامة الفشل التي امتدت لفترة طويلة في منطقة من العالم يعيش فيها نحو 500 مليون نسمة.
ولكن كي يتحقق كل ذلك، ينبغي على الشرق الأوسط التغلب على بعض المشكلات الكبيرة، بعضها معروف للجميع، إذ يزعم حكام المنطقة الأكثر تنوراً بأنهم يتعرضون لما يشبه المساءلة على أدائهم وذلك لتحسين قدر شعوبهم، إلا أن الأنظمة ذات الحكم المطلق تنزع نحو الزوال. وهنالك تهديدات جديدة تلوح بالاقتراب أكثر من ذي قبل، إذ باتت إيران على عتبة التحول إلى دولة تمتلك أسلحة نووية، ولهذا أصبح انتشار هذا النوع من الأسلحة أمراً مثيراً للقلق إلى حد كبير. أما التغير المناخي فيشير إلى أن هذه المنطقة التي تعتبر من أشد مناطق العالم حرارة وجفافاً لا بد أن تتعرض لظروف مناخية أشد قسوة، وهكذا لن تتمكن إلا بعض الدول من تحمل كلفة الاستثمارات التي تقوم على إعادة تصميم المدن لمواجهة التغير المناخي ومشاريع تحلية مياه البحر، بما أنها ستحتاج إليها لتبقى مأهولة بالبشر.
قاعدة الرابح والخاسر
من الواضح بأن الشرق الأوسط الجديد أصيب باختلال أشد في توازنه مقارنة بما كان عليه في التاريخ القريب، وذلك لأن قصص النجاح القليلة فيه والتي نجدها في دول الخليج يستفيد منها 14% فقط من السكان، في حين أن 60% من ناتج الدخل القومي، و73% من صادرات السلع، و75% من الاستثمارات الداخلية ذات الجنسيات المتعددة يستأثر بها الخليج، وهكذا يتجاور الأمل مع القنوط عبر وجود دول اقتصادية عصرية بجانب دول محكومة باليأس مثل السعودية الغنية التي تجاور اليمن التعيس. ثم يأتي لبنان الغارق بأوحال أزمته المالية، وبعده تأتي مصر التي يمكن أن تسير على هديه. وهنا يمكن القول بأن الرابحين الجدد في الشرق الأوسط يجسدون عقلية تجارية تسعى لجعلهم أغنى مما هم عليه، أما الخاسرون فسيذكروننا بأن لا أحد سيهب لنجدة أحد في عالم لم تعد تحكمه سوى قلة قليلة من القواعد والمبادئ. لذا، وأنت تملأ سيارتك بالوقود أو تنتظر الطرد الذي أُرسل إليك جواً، ما عليك إلا أن تتذكر بأن كل هذه الأمور تعتمد على منطقة أضحت مختبراً اقتصادياً وسياسياً، كما عليك أن تتمنى ألا تفضي أي تجربة من تلك التجارب لوقوع انفجار.
المصدر: The Economist