في جزيرة بعيدة عنّا حيث اعتقدت أنني من خلالها سأعيش قطيعة مؤقتة عن صراعاتنا وأزماتنا وحروبنا، وجدت وجوهنا في شوارعها وبين أزقتها وعلى جدرانها، سمعت آلاماً وقصصاً تؤاخي آلامنا، وتاريخاً بدا لي كأنه يسير في خط مستقيم جنباً إلى جنب من دون صعود أو دورات مع تاريخنا.
اعتقدت أننا وحدنا على هذه الخليقة من بقي أسير الماضي يدفع ثمن مقتل عثمان وعلي والحسين في صراع سني شيعي، يكاد يشل كل الخطى نحو بناء دول قوية بهوية جامعة عابرة الطوائف. لكن يبدو أن إيرلندا الشمالية بقيت معنا هناك أيضاً، حيث ترزح حتى اليوم تحت صراع مفضوح ومكتوم بين طائفتين مسيحيتين البروتستانت والكاثوليك.
في شوارع بلفاست كما لو أنك في شوارع بغداد، حيث الأعلام والصور والتقسيمات المناطقية الطائفية، ووجوه تترصد أخرى، ودوريات شرطة تزداد حمولة في السلاح في أماكن تهددها الهجمات باستمرار..
في شوارع بلفاست كما لو أنك في شوارع بغداد، حيث الأعلام والصور والتقسيمات المناطقية الطائفية، ووجوه تترصد أخرى، ودوريات شرطة تزداد حمولة في السلاح في أماكن تهددها الهجمات باستمرار، وتتجنب دخول أماكن أخرى مشحونة بالمجموعات المسلّحة التي نصبت نفسها كالشرطة الأهلية على مجتمعها وكأنه لا حضور لهيبة الدولة.
ستقابل الكثير من الكاثوليكيين الذين اضطروا لتغيير أسمائهم حتى ينجوا من التمييز الطائفي. وستصل إلى جدارن وحواجز تفصل بين الكثير عن الكثير حتى تصطدم بجدار عازل ضخم طوله 800 متر غربي العاصمة يفصل بين شارع شنكيل البروتستانتي الوحدوي وشارع فولز الكاثوليكي الجمهوري، يطلق عليه حائط "السلام"، هنا ستتذكر فقط جدار الفصل العنصري بين إسرائيل والضفة الغربية. وبين كل جدار وثان ستجد في بلفاست مئات الجداريات Murals تقص لك من كل جانب سردية الماضي وتطلعات المستقبل التي تختلف تماما عما يرويه المجتمع الآخر ولا تتقاطع معه.
تعود جذور الصراع إلى أكثر من ثلاثمئة عام حينما هاجر الكثير من بروتسانت اسكتلندا وإنكترا وويلز إلى مقاطعات تسمى أولستر في شمالي إيرلندا، عندما كانت جزيرة إيرلندا برمتها تحت الحكم البريطاني، واستوطنوا فيها ليشكلوا في هذه المنطقة أغلبية بروتسانتية على حساب سكانها الأصليين من الكاثوليك.
وبعد انفصال إيرلندا عام 1921 عن حكم لندن باستثناء شمالها، ظهر بفداحة نتيجة هذه الهجرات المتعاقبة انقسامٌ دينيٌ بين أغلبية بروتستانتية تحكم وتوزع الموارد وتوالي بريطانيا وبين أقلية كاثوليكية تعاني تهميشاً سياسياً واجتماعياً تتطلع للانفصال والانضمام إلى إيرلندا الأم (دبلن). هذا الانقسام الديني ترجم نفسه من خلال نضال قومي وانقسام آخر حول هوية البلاد هل هي بريطانية أم إيرلندية بين من يسمون الاتحاديين الموالين والجمهوريين القوميين، ما لبث أن ينفجر هذا الانقسام المجتمعي إلى سلسلة عنف متواصلة من 1968 لغاية 1995، بفترة سميت بالاضطرابات كما يحلو للاتحاديين تسميتها أو بالصراع كما يصفها الجمهوريون، أي تماماً كما يطلق البعض السوري على ما جرى في سوريا بالأحداث وآخرون ثورة.
عموماً سادت تسمية الاضطرابات لوقعها الألطف وهي التي أوقعت معها أكثر من 3700 قتيل ومئات الجرحى، وانتهت عام 1998 بتوقيع اتفاق الجمعة العظيمة بين الطرفين برعاية أميركية وبإرادة بريطانية إيرلندية.
ورغم أن حجم الدماء التي سالت على مدى ثلاثة عقود هي بمقدار ما نخسره نحن في اليوم الواحد بمنطقتنا، وأن ما جرى هناك قد يعتبر أقل وطأة وعنفاً من حروبنا التي تحصد الملايين، وسياق صراعهم يختلف عن مسببات صراعاتنا، لكن في المضامين تلعب الطائفية، وإشكالات الهوية، والانقسام السياسي، وسيطرة الجماعات المسلحة المنتمية لكلا المجتمعين البروتستانتي والكاثوليكي في إعدادات فاعلة ومتفاعلة في ملامح المجتمع الايرلندي الشمالي وكأنه صورة أولية مخففة من العراق ولبنان.
فواقع آخر خبرناه جيدا في بيروت تجده في برلمان إيرلندا الشمالية Stormont حيث عدم التوافق والتعطيل لأشهر وأشهر، وما يؤدي بالطبع لحكومات شبه مشلولة تعجز عن الكثير من رسم الميزانيات والبرامج التي تمكن من ردم مخلفات الصراع كبناء مناطق للسكن المشترك يجمع كلا الطائفتين أو مدارس موحدة بمناهج واحدة وكادر تدريسي متنوع، أغلبها عالقة من جراء الاشتباك السياسي حتى بعد 25 عاماً من إسكات القنابل باتفاق تقاسم السلطة.
وعن هذا الاتفاق ثمة ما قد يستوقف السوريين بل ما قد يكون إشارة تحذير بعدم الاقتراب من اتفاقات تذهب للمستقبل من دون معالجة الماضي لمن يودون هندسة مصالحة بأي ثمن. فرغم وفرة حظوظ إيرلندا الشمالية بوجودها في بيئة إقليمية ديمقراطية بين ويستمنستر ودبلن، وحرص واشنطن بل وضغطها لإنجاح اتفاق عام 1998، ومع تقديم حوافز كبيرة لكلا الطرفين لتحويلهما من خصوم إلى شركاء عبر اتفاق تقاسم السلطة أو ما يعرف بالحكم التوافقي أي ما يشبه في المفهوم اتفاق الطائف في لبنان والمحاصصة في العراق، رغم كل الظروف المناسبة لبناء سياق مناسب بل ونموذجي للمصالحة السياسية والمجتمعية، وبناء أسس الازدهار الاقتصادي، إلا أن الانقسام إلى حد كبير ما زال قائماً بين الناس وبين السياسيين، حتى ليبدو أنه من دون العناصر الخارجية الضاغطة لإدامة السلام، فإن عناصر تجدد (الاضطرابات) يمكن أن تتحقق فعلياً.
المشكلة التي حصلت في إيرلندا، هي ذاتها التي يمكن أن تحصل في سوريا، إذا ما قمنا بتحييد كل الظروف المهمة الأخرى التي توفّرت لهم ولم تتوفر لنا، ما حصل هو أن الإيرلندييين أنجزوا اتفاقاً سياسياً من دون معالجة جروح الماضي، لقد تركوها مفتوحة على افتراض التئامها عبر الزمن، لكن لم تندمل..
المشكلة التي حصلت في إيرلندا، هي ذاتها التي يمكن أن تحصل في سوريا، إذا ما قمنا بتحييد كل الظروف المهمة الأخرى التي توفّرت لهم ولم تتوفر لنا، ما حصل هو أن الإيرلندييين أنجزوا اتفاقاً سياسياً من دون معالجة جروح الماضي، لقد تركوها مفتوحة على افتراض التئامها عبر الزمن، لكن لم تندمل، لأنّ العدالة لآلاف الضحايا لم تتحقق، وفشلت السياسة في إخضاع الجميع للاعتراف بما ارتكبوه لتحمل مسؤوليات أفعالهم ومحاسبة الفاعلين.
ولسوء الحظ فإنّ حتى هذه الصورة تكاد أن تكون وردية بجانب السيناريو الأسود المنتظر في حال لو تم ابتداع اتفاق (في أحسن الأحوال) بين نظام غارق في دماء ضحاياه وبعض الشخصيات المعارضة التي لا تعبّر عن جموع الشعب السوري المشتت في المنافي والخيام والمعتقلات والمقابر وتحت ركام بيوتهم.
اتفاق تسعى له دول عربية وغير عربية في الوقت الحاضر لا يرقى حتى إلى تقاسم السلطة، ولم يذكر المعتقلين، وضاع من مفرداته الجاني والمجني عليه. من شأن هكذا اتفاق لو تم أن يتحوّل إلى قنبلة موقوتة ستنفجر عند أول مأزق.
وسواء بتقريب صورة واقعنا أو استبعادها عن بلفاست البعيدة، فإننا ربما قد نرغب أن نشبهها لا أن تشبهنا هي فقط. وأن نمتلك مثلها نظاما انتخابيا نزيها، وجيرانا يقدمون المساعدة على النهوض والاتفاق، لا التآمر والاستغلال، وفرصاً ممكنة للمستقبل، بدلاً من صورة قاتمة، لا أمل فيها، بل إني وجدت حتى في الجداريات التي تتضمن وجوه قادة تلك الفترة من سجناء وقادة حراك ورموز مما قد تستفز الذاكرة والآلام عند البعض، وجدت أنها تمثل على الأقل توثيقاً غير متفرّد للتاريخ، يكتبه المنتصر كما تعودنا دائماً، وكما يحصل مع شعوبنا وتجاربنا الصعبة مع أعتى الديكتاتوريات التي لا يرغب أن يشبهنا بها أحد.