ينتشر تفاؤل واسع في فضاء المنطقة مع انطلاق موجات المفاوضات بين الدول المتخاصمة والشروع في إنجاز اتفاقات تدفع في اتجاه السلام وإنهاء النزاعات على غرار التفاوض السعودي الإيراني برعاية صينية، والتفاوض السعودي الإسرائيلي برعاية أميركية، وكذلك الانفتاح على الأسد كأثر جانبي لأجواء الميل نحو تصفير النزاعات.
إيران من جهتها ومع بدء نضوج مناخات التفاوض واشتداد حملات الضغط عليها من القوى الكبرى التي لا تستطيع مواجهتها مثل الصين من ناحية والولايات المتحدة من ناحية أخرى وكذلك روسيا، تلجأ إلى لعبتها المفضّلة. ليس الهجوم على القوة البحرينية في جنوب السعودية من قبيل الحوثيين، سوى إشارة واضحة على استمرار اعتناق استراتيجية التفاوض بالتصعيد.
استراتيجية الحرب الدائمة خلقت سابقا مجموعات من الاستثمارات المسلحة التي انتشرت في جسم المنطقة وتغلغلت في نسيجها وعملت على تهشيمه وتمزيقه وكان أبرزها حزب الله اللبناني وأقرانه في العراق واليمن وسوريا وكل المنطقة.
ولما كانت كل مرحلة تفرض تغييرا في شروط اللعب من داخل الاستراتيجية نفسها فإن ظروف المرحلة كما يبدو تدفع في اتجاه الدفاع المحموم عن نظام الأسد، بغض النظر عن التفاوتات في المصالح والتعارض بينها في الكثير من المحطات، وذلك لأنه يمثل النموذج الذي يشرعن الحضور الإيراني ويغذيه ويسمح باستمراره في لعب الدور المخرب الذي يلعبه.
وإذا كانت أجواء الانفتاح العربي على الأسد ومشاهد خروجه من عزلته الدبلوماسية وقيامه بزيارات خارجية إلى الخليج العربي ثم إلى الصين توحي بأنه قد استعاد زخمه وشرع بترميم شرعيته المتهالكة وتثبيت سطوته على مقاليد الأمور في سوريا، تبرز السياقات التي تواكب هذه المشهدية بأنها تعمل من داخل منطق مغاير يحرص الفاعلون فيه على تفعيله في إطار الحل السياسي ورعاية عملية الانتقال السلمي للسلطة.
التقطت إيران الإشارات الانفتاحية على الأسد وفق قراءتها الخاصة وعملت على تفجير معناها والسعي إلى إعادة تركيبها بشكل يجعل الأسد آيلا للاستمرار بصيغته القائمة وبشخصه وبما يمثله
يعني ذلك عمليا خروج الأسد من الواجهة والحفاظ على هيكل إداري للدولة السورية يمكن البناء عليه وتطويره ليكون قادرا على إدارة المرحلة القادمة التي من شأنها أن تضع سوريا في مرحلة جديدة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يمنح فيها الحضور الأسدي في المنطق وفي الممارسة وفي الإدارة أي تأثير فعلي على مسار الأمور.
التقطت إيران الإشارات الانفتاحية على الأسد وفق قراءتها الخاصة وعملت على تفجير معناها والسعي إلى إعادة تركيبها بشكل يجعل الأسد آيلا للاستمرار بصيغته القائمة وبشخصه وبما يمثله.
إشارات لا تخطئ في هذا الصدد أطلقتها في المسار اللبناني، حيث سمع الموفد القطري إلى لبنان جاسم بن فهد آل ثاني من الثنائي الشيعي إصرارا على التمسك بالمرشح الأسدي لرئاسة الجمهورية سليمان فرنجية بعد أن كانت الإشارات التي برزت قبل فترة وجيزة توحي بالميل إلى قبول تسوية تأتي بقائد الجيش جوزيف عون إلى سدة الرئاسة مع ما يعنيه ذلك من انسجام مع جو تسويات عربي مرعي دوليا. تلك العودة إلى الإصرار على الإتيان بمرشح أسدي في هذه المرحلة تتناغم مع المساعي الإيرانية لتعويم الأسد من خارج مشاريع الحل السياسي بل بوصفه منتصرا، وقادرا على فرض شروطه والتأثير في تركيب السلطة في المنطقة ويحمل أوراق الرئاسة اللبنانية في جيبه.
رسالة ثانية شديدة الوضوح أطلقها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بتصريحاته حول نهاية وجود داعش في العراق ما يستدعي ضرورة إنهاء وجود التحالف الدولي لمحاربة داعش في العراق، ما يعني بشكل واضح فتح المجال لإيران للتغلغل المباشر في العراق بشكل يتناغم مع عمليات التوأمة التي تحرص على إنشائها بينه وبين لبنان انطلاقا من مشروع إحياء الأسد، حيث عبر بوضوح عن الموقف الإيراني من الأسد قائلا: "وجود سوريا بنظامها السياسي وشعبها أفضل من بديل مجهول قد يدخل المنطقة في حرب ثانية مع داعش، وأي إرباك أمني في سوريا سيطلق وحوش الإرهابيين ويهدد الأمن في العراق والمنطقة".
في الحديث عن سوريا يجعل السوداني من النظام السوري الحالي صيغة ضبط لا بديل عنها للحرب ضد الإرهاب ومنع عودته. هذا المنطق ليس جديدا فقد سبق استعماله في تبرير حرب النظام على شعبه وكذلك في تبرير تدخل حزب الله في سوريا، ولكن الجديد فيه والذي لا يمكن إهمال الرسائل المتفجرة التي يحملها هو رفض مسارات الحلول السياسية والإعلان عن دفن المبادرات العربية والسعي إلى إعادة تعويم النظام بوجهه الأصلي المتوحش والإجرامي، وتقديمه بوصفه ضمانة لمشاريع السلام والتسويات من ناحية وإعادة التهديد بإطلاق عفاريت داعش المحفوظة في الأقبية والمعدة في سبيل توظيفها لإعادة خلط الأوراق.
كل هذا المسار المتزامن بين بيروت وبغداد تحرك بغية الاستفادة من التهديد بالفوضى في سبيل ترسيخ بقاء الأسد والتغاضي، ليس عن ارتكاباته في الحرب السورية المندلعة منذ عام 2011 وإخراجها من التداول، ولكن منحه صك براءة مفتوحا يشمل المستقبل كذلك، والسماح له بإعادة إمساك الأمور في لبنان وتحويله إلى مستعمرة أسدية مقفلة تكون لإيران اليد العليا فيها.
إعادة الأسد إلى دائرة الحكم والسلطة فعل يعني إسقاطا تاما للسياسة ونهاية حاسمة لمنطق الثورات وروحها والتي لا زالت حية على الرغم من كل القمع الوحشي ولا تزال قادرة على المواجهة
ليس الأسد مجرد حليف لدود وضروري بالنسبة لإيران فما يمثله يسمو على الاختلافات الكثيرة، ويتجاوز حتى الصراعات المعلنة على النفوذ، وذلك لأنه يحمل رمزية الانحطاط الشامل التي تستطيع أن تلتهم كل شيء وتلغيه. إعادة الأسد إلى دائرة الحكم والسلطة فعل يعني إسقاطا تاما للسياسة ونهاية حاسمة لمنطق الثورات وروحها والتي لا زالت حية على الرغم من كل القمع الوحشي ولا تزال قادرة على المواجهة.
ولعل ما يدفع في اتجاه وصولها إلى طريقة اللاعودة أنها قد باتت بعد كل ما عاناه السوريون من فظائع لا تركن إلى الأمل ولا تطمح إلى الانتصار بل تنطلق من اليأس، ما يجعل القضاء عليها صعبا لأن أصحابها يثورون من أجل أن يحفروا ملامحهم ومعاناتهم في وجه العالم، وهم مستعدون للموت في سبيل ذلك.
لا يعني ذلك أن العالم سيستيقظ ضميره فجأة ولكن ذلك اليأس يغير معادلات القمع نفسها التي كانت قد استطاعت الانتصار على أصحاب الأمل بتحطيم سبله وإقفال مساربه الضيقة، ولكن اليأس في الأساس بلا مسارب ويمثل حالة الإغلاق الكاملة التي تصنع سلاحا فعالا.
هذا ما تريد إيران الاستثمار فيه في هذه المرحلة بغية تدمير ثورات يائسة تشتعل فوق السياسة والحسابات في سوريا وتهدد بالانتقال إلى لبنان ومنح مثيلاتها في إيران الزخم والمعنى. قيمة الأسد تتكثف في نظرها في هذا العنوان الذي يجعله مستحقا لبذل الجهود في سبيل ترسيخه بوصفه النظام الذي يراد له أن يحكم المنطقة إلى الأبد.