إنه النظام الصامد!

2023.08.18 | 07:11 دمشق

إنه النظام الصامد!
+A
حجم الخط
-A

منذ الأشهر الأولى لاندلاع الثورة السورية ضد نظام الأسد عام 2011، وخلال الجدل الذي نشأ آنذاك حول سبل الخروج من الأزمة المتشكلة، ذهب فريق من العارفين بتركيبة هذا النظام إلى القول إنه لا يمكن تغييره إلا بالاقتلاع، وهو عصي على الإصلاح من داخله.

وبالفعل أثبتت السنوات الماضية هذه الفرضية بكل جدارة، وصورة النظام اليوم تعكس هذه الحقيقة. وبعد 12 عاما من الحرب والتدخلات الخارجية وتهجير نصف الشعب السوري وتقتيل وإصابة مئات الآلاف وتهديم معظم المدن، وخسارة النظام السيطرة على نحو 40 في المئة من مساحة البلاد، فإنه ما يزال يحكم بالطريقة نفسها التي حكم فيها قبل اندلاع الثورة، وهي الطريقة التي أسس لها من قبل الأسد الأب، والقائمة على الجيش والأمن والأعوان والأزلام والتقارير والترهيب، وتعوم جميعها على بحر من الفساد والسرقة والطائفية.

هذه هي أركان الدولة الأسدية، إذا اختل ركن منها، تصبح الدولة كلها مهددة بالانهيار، حيث ثنائية القمع والفساد هما ركيزتا هذه الدولة، ولا يمكن لأحداهما أن تمضي، دون مساندة من الأخرى، والهدف هو ترويض المجتمع والأفراد، ليدوروا في فلك هذه الماكينة التي تلتهم ثروات البلاد لتصب في خزائن العائلة الحاكمة، مثلما تلتهم أخلاق المجتمع، فلا تبقي منها إلا قيم النفاق والانهزامية والقابلية للفساد.

ولا شك أن أية دراسات جادة لانحدار سلم قيم المجتمع السوري في عهد الدولة الأسدية، وخاصة في السنوات الأخيرة، سوف تكشف مدى الانزياح باتجاه القيم السلبية التي كانت مستهجنة في خمسينات وستينات وحتى سبعينات القرن الماضي، قبل أن تبدأ "القيم الأسدية" في فرض نفسها على المجتمع، بما يقزم من قيم الاستقامة والكسب الحلال، ويعزز قيما سلبية تقوم على الارتزاق واستحلال الحرام، وتبرير كل سلوك منحرف.

إن دولاً كبرى مثل الولايات المتحدة، أقامت سياستها على فرضية التغيير، ولم تعد تطالب بإسقاط النظام كشرط للانفتاح عليه، بل أن يقوم فقط بتغيير سلوكه

لقد راهن بعض العرب في الفترات الأخيرة على إمكانية إحداث تغيير في سلوك النظام، ليكون ذلك منطلقا نحو حل سياسي، بعد أن تعذرت في اعتقادهم إمكانية إزاحة النظام بالقوة. بل إن دولاً كبرى مثل الولايات المتحدة، أقامت سياستها على فرضية التغيير، ولم تعد تطالب بإسقاط النظام كشرط للانفتاح عليه، بل أن يقوم فقط بتغيير سلوكه.

ومثلما أدرك الكثيرون منذ الأشهر الأولى بعد عام 2011 أن النظام غير قابل للتغيير، وإما تقبل به كما هو أو تعمل على إزاحته برمته، فإن الدول الكبرى تدرك ذلك ولا شك، وهي تستخدم هذا الرهان غير المنطقي، مجرد ذريعة للتهرب من واجباتها في مساعدة الشعب السوري على التخلص من هذا النظام الجاثم على صدره منذ أكثر من خمسين عاما، لأنها في الحقيقة لا تبالي بمحنة الشعب السوري، وترى الوضع الراهن في سوريا، حيث الحكم ضعيف ومنبوذ، والمجتمع واهن ومنقسم، هو الأمثل لخدمة مصالحها في المنطقة، طالما الأمور "تحت السيطرة" ولا تشكل خطرا على الشيء الوحيد الذي يهم أميركا والغرب في المنطقة وهو إسرائيل، ويمكن دائما تنفيس الاحتقانات المحلية ببعض "المساعدات الإنسانية" سواء في مناطق النظام أم المعارضة.

الخيارات واضحة أمامه، وهو لا يريد من العرب سوى أموالهم، دون أن تكون مشروطة بأية مطالب تخص إصلاح نمط الحكم، أو حتى مجرد إدخال تعديلات طفيفة عليه، تتيح لهؤلاء العرب تبرير انفتاحهم على نظام أوغل في دماء شعبه

واليوم بعد أشهر من حملات الانفتاح العربي الرسمية على النظام، وإعادته إلى الجامعة العربية، ومحاولة منحه بعض الأوكسجين لينهض من جديد، نرى أن هذه الفورة توقفت أو تكاد، وخاب ظن المراهنين على التغيير في سلوك النظام، والذي أكد لهم الأخير بالقول (عبر تصريحات بشار الأسد المتكررة وآخرها لقناة سكاي نيوز عربية) وبالفعل عبر تواصل ضخ المخدرات إلى الخليج العربي عبر الأردن، (آخر ذلك إعلان الأردن الأحد عن إسقاط مسيرة محملة بالمخدرات قادمة من سوريا) وتعزيز روابطه مع نظام الملالي في إيران، أنه لم ولن يغير سلوكه، وأن الخيارات واضحة أمامه، وهو لا يريد من العرب سوى أموالهم، دون أن تكون مشروطة بأية مطالب تخص إصلاح نمط الحكم، أو حتى مجرد إدخال تعديلات طفيفة عليه، تتيح لهؤلاء العرب تبرير انفتاحهم على نظام أوغل في دماء شعبه، وبنى ملكه كله على قيم منحرفة عن مسار الإنسانية، حتى لا يكاد يوجد في العالم اليوم ما يضاهيه إجراما وفسادا وتجردا من الروح الوطنية. وبهذا المعنى فقط، هو نظام صامد، يحافظ باستماتة على نقاء سوءته.

وعندما سئل بشار الأسد في مقابلته الأخيرة، عما إذا كان فكر في التنحي، كمخرج للمحنة السورية، أكد في جوابه أن ذلك لم يكن مطروحاً أبداً، بدعوى أنه يمثل هروباً من المواجهة، وهي مواجهة لا يجد حرجا بعد 12 عاما من ادعاء النصر فيها، ولو على أنقاض بلد مدمر وشعب مهجر نصفه، ونصفه الآخر يعيش تحت خط الجوع والكرامة الإنسانية.