icon
التغطية الحية

إميل سيوران.. فلسفة "اللاجدوى"

2024.10.31 | 16:13 دمشق

آخر تحديث: 31.10.2024 | 16:13 دمشق

886949994
إميل سيوران
+A
حجم الخط
-A

إذا نظرت جيداً في مكتباتنا ستجدها مليئة بكتب تطوير الذات وكلها تقريباً دعوة للبحث عن معنى للسعادة، وكأننا أوهمنا أنفسنا بأنها السعادة الأبدية. واقعنا المادي مجرد عرض وطلب ولا يوجد في أكثره ما هو عميق يستحق أن ننشغل به كثيراً، تحت هذه القشرة المشكّلة من هذا الوهم ربما هناك حقيقة أخرى لانجرؤ على مواجهتها.

تجرأ سيوران على الخوض في هذه الحقيقة ولم يهتم كغيره للبحث عن معنى السعادة، وإميل سيوران هذا هو واحد من أبرز الفلاسفة والمفكرين الذين عاشوا في القرن العشرين، وُلِد في رومانيا عام 1911 وعاش فترة طويلة من حياته في فرنسا، عاصر حروباً وظروفاً قاسية أثرت في فكره وطريقته في فهم الوجود الإنساني ككل، ليصبح بعدها جزءاً من المشهد الثقافي الأوروبي.

 يُعرف سيوران بأسلوبه الأدبي الفريد والشاعري الغامض أحياناً، وأفكاره العميقة التي تناولت مواضيع مثل الوجود، والموت، واليأس، واللاجدوى، وتعتبر فلسفته تعبيراً عن القلق الوجودي والتوترات النفسية التي يعاني منها الإنسان في عصر الحداثة.

تأثرت فلسفة سيوران بعدد من التيارات الفكرية، إذ تأثر بالتفكير الوجودي للعديد من الفلاسفة مثل سورين كيركيغارد ونيتشه، ولكنه انتقل أيضاً إلى مستويات أعمق من التشاؤم والريبة، فقد عُدّ سيوران من أنصار الانعزالية، حيث رأى أنّ الفرد يجب أن يحاول عيش حياته في ظل الوعي الكامل بالعبثية التي تحكم الوجود، وهذا ينعكس في كتاباته التي تتميز بشعور عميق من الاستجابة للمأساة البشرية.

"لستُ سوى مهرج"

في كتابه مثالب الولادة يقول إميل سيوران: "اقترفت كل الجرائم باستثناء أنْ أكون أباً" حيث تتلخص فكرة الرجل عن الموت بأنه مجرد أمر عبثي، فلا بد  من نهاية حتمية ستنهي وجوده أصلاً. لماذا كل هذا النواح؟ هنا يقترب سيوران كثيراً من فكرة شوبنهاور عن الوجود باعتبار أن  عند الأخير أمر عبثي لا طائل منه.

كانت الكتابة وسيلة سيوران في التعامل مع اليأس، الذي تجلبه الحياة حيث رأى فيها خلاصه، ولكنّ في فكره ما يستحق الوقوف عنده مطولاً؛ ففي واحدة من أكثر "شطحاته" تطرفاً، يرى الرجل في الفشل جمالاً لا يراه غيرهُ في عالم لا يعترفُ ولا يمجّد إلا النجاح والإنجاز، وفي هذا السعي المحموم وراء النجاح إلهاءٌ عن التجربة الأعمق للحياة، ففي طيّات الفشل واللاجدوى ستقتربُ كثيراً من فهم الطبيعة الحقيقية للوجود كما يراها سيوران.

على الرغم من أن فلسفة سيوران قد تبدو للعديدين قاتمة أو تشاؤمية، إلا أن لها تأثيراً عميقاً على العديد من الفلاسفة والكتّاب الذين جاءوا بعده، فقد ألهمت أفكاره الفلاسفة الوجوديين ومفكري ما بعد الحداثة

ليست هذه بطبيعة الحال دعوة من سيوران للإنتحار أو الانزواء حتى الهلاك، حيث جادل سيوران أنه من خلال قبولنا إخفاقتنا يمكن أنْ نحيا حياة متوازنة، وأفضل من سعينا للنجاح، فكم من مرة جعلتنا لهفتنا للنجاح سعداء نشعر بالرضا عن أنفسنا، وكم مرة جعلتنا غير ذلك.

يقول سيوران: "فقط تلك اللحظات هي التي تحسب عندما تكون الرغبة في البقاء بمفردك قوية جداً لدرجة أنك تريدُ تفجير راسك بدلاً من تبادل كلمة مع شخص ما".

قد لا تقدّم كتابات إميل سيوران أجوبة شافية، لكنّها توفّر عدسة يمكننا من خلالها رؤية وجودنا من زاوية أخرى، وفهم ما نعانيه جيداً، والأهم من هذا هو إيجاد جمالٍ فيه.

"احتضان الفوضى"

انتقد سيوران الفلسفة التقليدية، حيث كان يعتقد أنّ القيمة الحقيقية للوجود لا تكمن في النظريات المجردة للفلاسفة، ولكنْ بمواجهة الحياة بلا رتوش.

  كثيراً ما تعملُ الفلسفة بنظرياتها التقليدية على إبعادنا عن التجربة المباشرة للحياة، وبالنسبة لسيوران فإن هذا التجريد هو مجرّد طريقةٍ مصطنعة لتجنب الحقائق غير المريحة، ربما لم تكن رؤيته هذه نابعة من عدميته، وليحترق العالم إذاَ، بل من فكرته عن "احتضان الفوضى" كما يعبرهو بنفسه: "الفوضى هي أن تشكك في كل شيء لقّنوك إياه، الفوضى هي أنْ تكون نفسك لا غيرك".

لم يرفض سيوران هياكل الفلسفة التقليدية ولا صرامتها بالمطلق، لكنّه شكك في قدرتها على اختزال الحياة بنظرياتٍ مجردة.

ومثلُ الفلسفة انتقد سيوران النظم الاجتماعية والفكرية والدينية أيضاً، حيث اعتبر أنها مجرد تصاميم لحمايتنا من "الأكثر ظلمة" وتقديم راحة زائفة، فمن الأسهل كما يقول الاعتقاد بالمطلقات بدلاَ من التفكير بالاشياء الأكثر قسوة في الحياة.

وهذه ربّما تبدو دعوة من الرجل للابتعاد عن أمان النظرية وأمان المطلق، والانخراط في العالم بطريقة أكثر جرأة، وبصرف النظر عن فكرة الرجل بشأن "ما هو الأكثر جرأة؟"، إلا أنّه كحال الكثيرين غيره يرفض الأوهام المريحة، ويعتبرها مصادر كاذبة للحقيقة.

يعتبر مفهوم العبثية أحد الركائز الأساسية في فلسفة سيوران، فهو يرى أن الحياة ليست لها معنى محدد، وهذا يعزز شعور اليأس لدى الإنسان. إذا قرأت مؤلفات سيوران ستجد كيفية احتواء هذا اليأس على نوع من التحرر، حيث إنّ الاعتراف بعدمية الوجود يمكن أن يُحرر الأفراد من التوقعات والمطالب التي تضعها المجتمعات.

يتناول سيوران أيضاً موضوع الفردية، وكيف أنّ الحياة المعاصرة تُسهم في انفصال الأفراد عن جوهرهم، يعبر عن ذلك بقوة من خلال انتقاد المجتمع والممارسات الاجتماعية التي تعزز الازدواجية وقلة النزاهة، فيُظهر سيوران أنّ المسار نحو السلام الداخلي يتطلّب التغلبُ على الأطر الاجتماعية التي تعيق الفرد.

على الرغم من أن فلسفة سيوران قد تبدو للعديدين قاتمة أو تشاؤمية، إلا أن لها تأثيراً عميقاً على العديد من الفلاسفة والكتّاب الذين جاءوا بعده، فقد ألهمت أفكاره الفلاسفة الوجوديين ومفكري ما بعد الحداثة، حيث يستند الكثيرون إلى مفاهيمه حول العبثية والفردانية كمرجع لفهم تجارب الإنسان الحديثة.

فلسفة إميل سيوران ليست مجرد فكر فلسفي عميق، بل هي أيضاً دعوة للتأمل في جوهر الوجود الإنساني. من خلال تأملاته حول اليأس، والموت، والفردية، يقدم سيوران لنا منظوراً فريداً عن الحياة في عالم يموج بالتحديات والأسئلة الوجودية، وأسلوبه الأدبي الساخر والفلسفي يهطي قوة لأفكاره، ما يعكس تعقيدات النفس البشرية.

ستبقى فلسفة إميل سيوران مصدر إلهام للعديد من الأفراد الذين يسعون لفهم العوالم الداخلية والخارجية المتشابكة في حياة الإنسان.