حضور سوريا في ذهن السوري السوري كحضور روحه. هذا وجدانياً وعاطفياً؛ ولكن إرادةً وفعلاً، ما لهذا السوري مِن أمره شيء؛ فهو غالباً يحضر فقط بفعل الآخر؛ هذا إذا كان لا يزال حيا. وهذا يُساق على كل سوري، وخاصةً مَن يرزح تحت سطوة منظومة تدّعي السيادة.
لا سيادة لنظام الأسد على شيء في سوريا، إلا على ما يخدم المتدخل الخارجي بالشأن السوري؛ وذلك مقابل بقائه. ما مِن قرار سياسي يمكنه اتخاذه إلا بالرجوع لِمَن يحميه؛ وتكون مصلحة المحتل فوق كل اعتبار. فبعكس إرادة السوريين وما يريده العالم، أن تعلن العداء لأوكرانيا، لا يخدم إلا المحتل الروسي. وأن تكون كل مقدرات سوريا الاقتصادية بتصرف المحتل لا تخدمه، وليست في مصلحة سوريا والسوريين. حتى تصنيع المخدرات وتسويقها- شريان حياته الاقتصادية الوحيد- تتم برضى وبإشراف المحتل الإيراني. والمعايير ذاتها تنطبق على الوضع الداخلي، وتعامل هذا النظام مع "رعيته"؛ فبقاء السوري بحالة عوز وذل، يبعد تفكيره بطغيان النظام أو الاحتلال. وفي الجانب العسكري، لا قرار له، إلا بعد موافقة قوى الاحتلال، التي تأخذ مصلحة احتلالها فوق أي اعتبار، لأي إجراء من قبله.
المنظومة الإجرامية تبيعهم أخباراً عن فلذات أكبادهم في معتقلاتها؛ وتكون في الوقت ذاته قد أنهتهم تحت التعذيب
الشيء الوحيد الذي يمتلك إرادة وسيطرة علية هو الاستمرار بالقيام بما أصبح كارثياً على سوريا وحياة السوريين. يمنع عنهم سبل الحياة، ليتحوّل كل ما حولهم إلى جحيم لا بد الخلاص منه: فلا كهرباء، ولا ماء، ولا وقود، ولا مال، ولا أمان. أكثر مَن يدرك حاجة السوريين للخروج من هذا الجحيم، حتى لو رموا أنفسهم بالمجهول للخلاص من جهنم الحياة في الداخل السوري، هي منظومة الاستبداد؛ فتبيعهم "جواز السفر" بأضعافٍ مضاعفة"؛ ويشتري سماسرة إيران ما تبقى لهم من رزق؛ لينفد مشروع خبث ملالي الاحتلال. المنظومة الإجرامية تبيعهم أخباراً عن فلذات أكبادهم في معتقلاتها؛ وتكون في الوقت ذاته قد أنهتهم تحت التعذيب. ببساطة لم تجانب مجلة "الإيكونومست" الحقيقة، عندما قالت إن "النظام" يتصرف كمافيا تجاه بلد وأهله.
بين السوريين في الداخل - حيث يسيطر النظام وحُماته - تجد مَن رَبَطَ مصيره قلباً وقالباً مع "النظام" إيماناً أو مصلحةً أو نفاقاً. وتجد المحبَط، والرمادي، و"المطنّش". وتجد مَن يلعب بالملايين، ومَن لا يجد قوت يومه. والكل بلا فعل حقيقي، ولا حول ولا قوة؛ والغالبية تنتظر الخلاص، الذي لا يأتي.
السوريون خارج سيطرة النظام يقَعون تحت سيطرة من نوع آخر. في الداخل السوري، وفي ما يُسمَّى "المُحَرّر" تتقاذفهم الخيام بحرّها وبردها، والعوز وتحكّم بني جلدتهم من القادرين، وبنادق متفلتة، و"جولاني" عميل لجهات عديدة؛ يطلق طريّ الكلام، وهو كتلة من الإجرام والمزايدة؛ وحقائب الدولارات تنزل عليه من النظام وأعوانه؛ والصمت التركي المشبوه تجاهه، وسيطرته على العباد والمعابر، ومزايداته في نصرة الأمة تجاه استبداد النظام. ثم تأتيك قسد ومسد وفسد ومخلفات الأسد.
في بلاد الاغتراب لا تزال الذاكرة حية بمحطات رحلة الموت والعوز والإهانة والإقامة المؤقتة، "والكملك" و"المهاجرين والأنصار" والعاهات العنصرية، واللغة؛ وانتظار الإعاشة الشهرية، وبعض ملامح التمييز والعنصرية. وفي بلدان الجوار، تأتي المساعدات فتبتلعها الدول المغيثة، والعاملون في مكاتب الأمم المتحدة؛ وتسمع ميقاتي يصرُّ على رمي اللاجئين السوريين إلى جحيم الاستبداد رغم مليارات الإغاثة الدولية المخصصة لهم، والتي يبتلعها أسياده، ويعزُّ عليه نجاة هؤلاء المساكين بحياتهم؛ وكل ذلك لتقديم أوراق اعتماده لحزب الكبتاغون، ونظام الاستبداد، وملالي طهران لرئاسة الوزارة.
لا يقتصر الارتهان على منظومة الاستبداد الأسدية، بل تعداه إلى مَن تسنّم تمثيل مَن انتفضوا وثاروا على فساد هذه المنظومة وإجرامها. الفرق الأساسي بين هؤلاء، وتلك المنظومة بأن "الممثلين" لم يرتكبوا الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد، ولا يزال. فارتهان معارضة منظومة الاستبداد قائم وواضح للعيان؛ وللأسف وراء هذا الارتهان أسباب لا حصر لها؛ تتمثل بالخوف المزمن من السلطة، والأمراض المتوارثة من حكم منظومة الاستبداد الأسدية على مدار أربعة عقود، والرخاوة الدولية تجاه القضية السورية، التي باعت السوري الكثير من الوهم، واعتبرت قضيته أداةً لمصالحها وتنفيذ مشاريعها أو "حلحلة" مشكلاتها.
لا تزال النفوس المريضة والأنانيات والإقصائية تفعل فعلها. ومعروف أيضاً أن أكثر مَن لا مصلحة له بخلق هذا الجسد الواحد هو سلطة الاستبداد وحماتها المحتلون
الكل يدعو إلى وحدة السوريين؛ ومعروف أن لا مخرج لسوريا إلا بالسوريين أنفسهم؛ وما حك جلدك مثل ظفرك. ولكن كل ذلك يحوم فوق رؤوسنا دون خطة أو استراتيجية أو منهجية لخلق هذه الوحدة. ولا تزال عوامل التفرقة المقصودة والغبية تنهش هذا الجسد المحتمل. ولا تزال النفوس المريضة والأنانيات والإقصائية تفعل فعلها. ومعروف أيضاً أن أكثر مَن لا مصلحة له بخلق هذا الجسد الواحد هو سلطة الاستبداد وحماتها المحتلون.
لن ينفع السوريين حالة الاستنقاع والموات هذه، ولن ينفعهم تسوّل حل عبر مصالح دولية متناقضة، ورخاوة أو تآمر أميركي؛ ولا العرب، الذين لا حول ولا قوة لهم؛ ولا احتكار الروسي لقضيتهم، ولا أوروبا التي تفتح عيناً وتغلق أخرى، ولا تركيا "وتسربلها" بانتخاباتها وبالناتو وأوروبا وأميركا، وبتذبذب ميزان علاقتها مع روسيا، ولا أن تكون المعارضة الرسمية طوع بنانها في أستانا والدستورية. وضع كهذا هو الوصفة الأنجع لضياع قضيتهم ونهايتها. فقط معرفتهم لهذا الواقع وانتفاضتهم تجاه هذه الحقائق وتداعيهم لوحدة كلمتهم وموقفهم تجاه إنقاذ أنفسهم وبلدهم عبر استنفار نخبهم في إيجاد الصيغة الوطنية المؤسِّسة لقيادة سوريا الغد. ذلك يجعل كل القوى المذكورة أعلاه تعيد النظر بموقفها، وتعرف العنوان الحقيقي، والإرادة الحقيقية لشعب يريد أن يعيد بلده إلى سكة الحياة حراً سيداً ذا حكم رشيد.