كثيرة هي البلدان العربية، التي استفادت، وعوَّمت نفسها في الخطاب السياسي، إثر أحداث غزة والحرب الهمجية الإسرائيلية على شعبها، باستثناء سوريا أو النظام السياسي في دمشق، حيث لم يستطع كسْب بوصة واحدة يلِجُ من خلالها لمحاكاة العرب والشعب السوري عن ضرورة الصمود والتصدي، وحشد طاقات الشعب العامل في مواجهة العدو الإسرائيلي، من أجل قيام التوازن الاستراتيجي، والذي على أساسه قام النظام السوري واستمر في قمْعه وفي دفْن أي حراك تغييري مُطالِب بالحدود الدنيا من الإصلاحات السياسية.
ويعود هذا الجمود في انعدام تسويق الخطاب السياسي لدمشق، إلى أسباب عديدة، منها تغليفه إيرانياً وسط الجغرافيا السورية، وربطِه روسياً لدواعٍ استراتيجية تتعلَّق بالحرب الأوكرانية الروسية والعلاقة مع الغرب وإسرائيل، تمهيداً لإيجاد البديل الجاهز المقبول عن النظام دولياً وعربياً وفي الإقليم.
إزاء ما جرى، ورغم كل التطورات التي حصلت والتقارب الجاري بين النظام السوري ودول الخليج، خاصة بعد ملء مقعد دمشق في الجامعة العربية، فقد راقبت الدول الغربية وواشنطن هذا التطور بكثير من التحفُّظ، ورفضت التقارب الحاصل مع دمشق، وظلَّت متمسكة بتنفيذ القرارات الدولية ومنها 2254، ووقف إطلاق النار لإجراء حل سياسي لإنهاء أزمة البلاد.
هذا الفتور الحاصل يحسبه بعض المتابعين نتيجة الضعف في مكافحة المخدرات، وهو ما دفع بالأردن للتحرك نحو الحدود وتكثيف الحرب على مافيات الكابتاغون وملاحقة عصابات التهريب
وهذه العدوى، سرعان ما انتقلت بعد عودة سوريا للجامعة العربية والبطء في التراجع، أو الفتور والتحفظ العربي في إقامة علاقات اقتصادية أو تطور في العلاقات السياسية، فهذا الفتور الحاصل يحسبه بعض المتابعين نتيجة الضعف في مكافحة المخدرات، وهو ما دفع بالأردن للتحرك نحو الحدود وتكثيف الحرب على مافيات الكابتاغون وملاحقة عصابات التهريب، ناهيك عن التسيُّب في فتح الحدود وإطلاق موجات اللاجئين إلى خارج أسوار سوريا.
كذلك لا ننفي أنَّ الأزمات والحروب في المنطقة العربية، والتي اندلعت بعنف هذا العام، كحرب السودان وحرب غزة، جعلت من القضية السورية خارج أولويات العرب والخليج والعالم، باستثناء موسكو التي أثارها القصف الإسرائيلي لمواقع عسكرية داخل الأراضي السورية، وتعطيل مطاري دمشق وحلب عدة مرات عن الخدمة، حيث سارع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للاتصال برئيس الوزراء الإسرائيلي والاتفاق على جدول أعمال لهذا القصف، وأخذ موسكو العلم مسبقاً إبان أي قصف لسوريا أو أي عملية عسكرية يمكن أن تُغضِب تل أبيب من الجولان السوري، خشية تفلُّت فصائل المجموعات "المقاومة" المساندة لحماس في غزة، بعدما أخذت أريحيتها بالهجوم من جنوبي لبنان. ومع ذلك تواصل إسرائيل قصفها المطارات السورية ومواقع المقاومة، وتوسَّعت الغارات أكثر منذ السابع من أكتوبر في عملية طوفان الأقصى.
فاتفاق المبادرة أو إعلان عمان بشأن سوريا صار حبراً على ورق، بعد كل هذه التطورات العسكرية المتلاحقة، حيث يستحيل أن يتخلى النظام السوري عن القوات الإيرانية والروسية، التي يعتبرها حليفة استراتيجية له، بعد أن فقد أي مبادرة في الداخل السوري والإقليم، في وقت لا تزال أجزاء واسعة من إدلب وشمال غربي سوريا على صفيح ساخن، واستمرار التهديدات العسكرية الإسرائيلية جنوباً، فتراجع مبادرة الـ "خطوة بخطوة" صار واقعاً، بسبب صراع القوات الأميركية شرق البلاد مع أطراف الفصائل الموالية لإيران في كل من العراق وسوريا، وهذا ما قوَّض تنفيذ أبرز بند من بنود المبادرة وهي إخراج القوات الأجنبية، في حين يبقى المكسب الدبلوماسي، بعودة العاصمة السورية لمقعدها في الجامعة خلال عام حافل بالأحداث والمطبَّات التي لم تؤدِّ الى أية نتيجة تذكر..
فلا أحد يتحدث اليوم عن واقع سوريا والمطالب الشرعية للشعب السوري في الإصلاحات، باستثناء روسيا التي تعتبر أن دمشق اليوم هي الموقع الأهم لعودتها إلى الساحة الدولية كقوّة لا يمكن تخطّيها في أي ملفّ والتصرّف بمعزل عنها، فموسكو تعتبر سوريا تعويضاً ومن خلالها تفرض نفسها شريكة في أي معادلة، خاصةً في الشرق الأوسط، بالإضافة الى أن نظام الأسد هو آخر حليف لموسكو في الشرق الأوسط، وفيه القاعدة العسكرية الروسية الوحيدة في حوض المتوسّط، وكذلك ما يتعلق بالاقتصاد الروسي وبشركات الأسلحة التي خسرت أسواق العراق وليبيا، وجزءًا من السوق اليمني، ولم يبقَ لها في المنطقة سوى سوقَي الجزائر وسوريا، وتريد المحافظة عليهما والتوسّع، بعد أن التقطت أنفاسها قليلاً بالحرب في أوكرانيا من جراء اندلاع حرب غزة.
أما إيران، والتي تطوَّر دورها في المنطقة وتحوّل إلى لاعب أساسي، والأكثر تأثيراً في العراق، حيث العمق الاستراتيجي الذي يمكّن طهران من الوصول إلى المتوسّط، ويجعل إيران والعراق وسوريا وصولاً إلى لبنان من خلال حزب الله، خطاً ممتداً يمكن أن يتحوّل إلى قوة اقتصادية وعسكرية وديموغرافية، توظّفها طهران لصالحها، وتضعها على حدود إسرائيل مباشرة، بما يضمن لها قدرة تهديد لردع الإسرائيليين أو تخويفهم من مهاجمة برنامجها النووي، ويلجم اندفاع تركيا صوب المنطقة العربية، لذلك يعتبر الدفاع عن الأسد بالنسبة للإيرانيين، هو دفاع عن سطوتهم على لبنان والعراق أيضاً، وبالتالي عن قدرة إيران على الاستمرار في فرض نفوذها.
في حين أن الموقف الأميركي هو أيضاً موقف مركّب، خاصة ما يتعلق بتلكؤ السياسة الخارجية، طالما أن سوريا تعتبرها واشنطن موضع استنزاف كبير لإيران، لذلك اقتنعت بأنه لا حاجة للعجلة في حسم الأمور أو الدفع نحو ذلك، طالما أن شروط الحسم وأشكاله في ما خصَ سقوط الأسد، لم يُتّفق عليها ولم تتّضح معالمها بعد.
يستحيل على هذا النظام القيام بأي إصلاحات أو تقديم أية مبادرات سياسية وأمنية يمكن أن تُعاد من خلالها دمشق إلى الحاضنة العربية
وهذا بدوره يدل أخيراً، بل ويفسّر البطء الأميركي الشديد في التعامل مع الملفّ السوري، خاصة بعد التجربة العربية والخليجية في اتفاق عمان، والقناعة التامة التي تركَّبت، بأنه يستحيل على هذا النظام القيام بأي إصلاحات أو تقديم أية مبادرات سياسية وأمنية يمكن أن تُعاد من خلالها دمشق إلى الحاضنة العربية، وفق الشرعية الدولية، حيث أن حرب غزة والتعليق على حبل فلسطين والقضية المركزية العربية لم تعد تجدي هذه المرة، فالتحول لدى شعوب المنطقة صار كبيراً، بعد انكشاف مجمل السياسات الإقليمية التي تصطاد على آلام الناس وتضحياتها في مواجهة القوى الكبرى.