سيطر قيس سعيد على كل المؤسسات السياسية من رئاسة وحكومة والسلطة التشريعية حيث قام بحل البرلمان. ومع حل المجلس الأعلى للقضاء وتعيين قضاة آخرين وتغيير هيئة الانتخابات عبر تعيينها من قبل الرئيس، بذلك يكون قد جمع كل السلطات الثلاث بيديه بدون أي مراجعة أو قدرة لأية مؤسسة على مساءلته ومراجعة قراراته.
لقد مرت تونس بمرحلة هشة من عملية الانتقال الديمقراطي بعد الثورة عام 2010 لكن ما يجري اليوم هو انتكاسة كاملة للتجربة الديمقراطية الناجحة الوحيدة بعد الربيع العربي، لقد استطاع التحالف الإقليمي المناهض للثورة والتحول الديمقراطي العربي من إجهاض هذه التجربة ووأدها تماما.
ورغم أن معظم علماء السياسة يعتبرون أن استقرار المؤسسات الديمقراطية يحتاج على الأقل أربع دورات تشريعية انتخابية تجري فيها الانتخابات بحرية ونزاهة تامة، فتونس هنا تثبت هذه النظرية على مستوى الانتخابات الرئاسية، لكن في الحقيقة كان هناك عدة مؤشرات على عدم قدرة المجتمع ذاته على حماية التجربة الديمقراطية وقد تجلى ذلك في عزوف الناخبين عن المشاركة، حيث لم تتجاوز نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة 45,02%، حيث يعد الإقبال على هذه الانتخابات أدنى من مثيله في العام 2014 والتي وصلت نسبة المشاركة فيها إلى 64% .
فعزوف الناخبين عن المشاركة يقرأ دوما على أنه فقدان الثقة في أن نتائج الانتخابات ستحدث أي تغيير على مستوى الحياة الاقتصادية والاجتماعية للناخبين، وهو ما يخيف بأن يتحول هذا الصمت الانتخابي إلى عمليات احتجاج خارج الصندوق الانتخابي على شكل مظاهرات من الصعب السيطرة عليها أو أعمال شغب. وهذا ما حصل تماما عبر دعم شبابي كبير للإجراءات التي قام بها سعيد على الأقل في مرحلتها الأولى.
فعزوف الناخبين عن المشاركة يقرأ دوما على أنه فقدان الثقة في أن نتائج الانتخابات ستحدث أي تغيير على مستوى الحياة الاقتصادية والاجتماعية للناخبين
النقطة الأخرى التي كانت تجب قراءتها والتحذير منها مبكرا هي في فشل وصول أي من ممثلي أو مرشحي الأحزاب السياسية إلى الدور الثاني وهو ما أحدث "زلزالا" سياسيا حينها كما وصفه الكثير من المعلقين التونسيين على مستوى حزب النهضة أو على مستوى حزب نداء تونس الذي شهد تصدعات كبيرة تدل على نهايته تقريبا على المستوى الوطني، وصعود أكبر للحالات الشعبوية التي مثلها أكثر من مرشح في هذه الانتخابات التونسية وعلى رأسهم نبيل القروي الذي نجح بالوصول إلى الدور الثاني.
عموما تحدث كل هذه الهزات السياسية كما يقال عنها في كل الدول حديثة العهد بالديمقراطية وهو ما حدث تقريبا مع خسارة معظم الأحزاب الثورية والديمقراطية في المراحل الثالثة أو الرابعة من الانتخابات التشريعية في أوروبا الشرقية، رغم دور هذه الأحزاب الكبير في عملية التغيير الديمقراطية ودمقرطة المؤسسات بعد مرحلة الاستقلال من الاتحاد السوفييتي والتغيير الكبير الذي جرى عام 1989 حيث خسرت منظمة التضامن البولندية، والسبب الرئيسي يعود إلى التوقعات الكبيرة التي تكون لدى المواطنين أن التغيير السياسي الكبير سيجلب معه نجاحا اقتصاديا وازدهارا على المستوى الوطني والفردي، وبالطبع لم يتحقق شيء من ذلك على المستوى الوطني في تونس حيث يثقل الدين العام الخزينة التونسية وهو ما يجبرها على الاقتراض بشكل دائم من البنك الدولي دون أن تعوض إيرادات السياحة أو تصدير الفوسفات من العجز الدائم في الميزانية أو يرفع نسبة النمو المنخفضة جدا على مستوى الأعوام الأربعة الماضية نسبة 2.1 وفقا للبنك الدولي، وفوق ذلك يبقى ترهل مؤسسات القطاع العام أو التوظيف الحكومي أحد أهم عقبات النمو والإصلاح الاقتصادي والتخلص من ذلك يكون عبئاً على كل مرشح ديمقراطي يريد أن يعد الناخبين بالتوظيف وفرص العمل.
وهو ما أدخل تونس في حلقة مفرغة من العجز الاقتصادي الذي يصبح أكثر تأثيرا مع ارتفاع نسب التعليم فالنسبة الأكبر من المتعلمين صوتوا للمرشح قيس سعيد الذي اعتمد على طلبته في إدارة الحملة الانتخابية المتواضعة التي أوصلته إلى الموقع الأول، في حين صوت الناخبون الأقل تعليما للمرشح نبيل القروي الذي حصل على المرتبة الثانية.
لقد استغل قيس سعيد هذه المتغيرات من أجل فرض أجندته الشعبوية التي أصبحت الآن واضحة في هدفها المتمثل في القضاء على التجربة الديمقراطية في تونس كليا وعودتها إلى فضاء الدكتاتوريات العربية.
يبقى السؤال الذي حاولت إثارته وهو لماذا لم يجد المجتمع التونسي حاجة للدفاع عن الديمقراطية وسلم بإنهاء المؤسسات الواحدة تلو الأخرى ولم تستطع المعارضة بناء حاجز شعبي قوي يحول بين سعيد والتجربة الديمقراطية.