مقدمات الثورة السورية 9
في خِضمّ الصراع العلني حيناً والمضمر أحياناً في قلب جناحي إعلان دمشق، وقعت خسارة كبيرة، أصابت الجسد المعارض وحركة المجتمع المدني في سوريا إصابة بالغة. كان ذلك الحملة الكبيرة التي شنتها السلطة في سوريا على مجموعة من المثقفين السوريين شاركوا مجموعة من أقرانهم اللبنانيين في إصدار بيان سموه إعلان بيروت-دمشق / دمشق-بيروت.
وكان من الممكن أن تلعب هذه الوثيقة المهمة في تاريخ كل من سوريا ولبنان دورا كبيرا في رأب الصدع بين البلدين وفي إعادة المياه إلى مجاريها لولا حملات التخوين والتشكيك بالموقعين "التي انساقت نحوها السلطة السورية وبعض القوى والشخصيات الموالية لها."
تضمنت الوثيقة التي نشرت في 12 من أيار/مايو 2006، مقدمة اعترفت بحقيقة التدهور المتسارع للعلاقات بين سوريا ولبنان
وقد تضمنت الوثيقة، التي نشرت في 12 من أيار/مايو 2006، مقدمة اعترفت بحقيقة التدهور المتسارع للعلاقات بين سوريا ولبنان، وأعربت عن الشعور بالقلق الشديد إزاء هذا التدهور الشديد، ثم ذكرت بالنضالات والتضحيات المشتركة للسوريين واللبنانيين، والنجاحات التي حققوها معا، خاصة فيما يتعلق بـ "نضالهما المشترك من أجل قضية فلسطين وضد الأحلاف العسكرية الدولية والإقليمية، وصولا إلى تضامنهما خلال العقود الأخيرة في التصدي للعدوان الإسرائيلي عليهما واحتلاله لأجزاء من أراضيهما، وقد أثمر التصدي في لبنان عن تحرير جنوبه المحتل." بعد ذلك، وفي صدد المطالبة بتصحيح العلاقة بين البلدين، طالبت الوثيقة بعشرة أمور من شأنها إصلاح ذلك الخلل:
أولاً: احترام وتمتين سيادة واستقلال سوريا ولبنان في إطار علاقات ممأسسة وشفافة تخدم مصالح الشعبين وتعزز مواجهتهما المشتركة للعدوانية الإسرائيلية ومحاولات الهيمنة الأميركية. وإننا ندعو في هذا المجال إلى إرساء تلك العلاقات على أسس نابذة لمشاريع الضم والإلحاق والاستتباع من جهة والاستعلاء والتقوقع والقطيعة من جهة أخرى. في هذا الصدد، يطالب المشاركون السوريون بضرورة الاعتراف السوري النهائي باستقلال لبنان ومغادرة كل تحفظ ومواربة في هذا المجال. ويعلن المشاركون السوريون واللبنانيون معاً تمسُّكهم الحازم بمنع أن يكون لبنان أو سوريا مقراً أو ممراً للتآمر على البلد الجار والشقيق أو على أي بلد عربي آخر. وإننا معاً نرى أن الخطوات الأولى في هذا الاتجاه تتمثَّل بترسيم الحدود نهائياً والتبادل الدبلوماسي بين البلدين.
ثانياً: نعلن تمسكنا بحق سوريا في استعادة كامل أراضيها المحتلة في الجولان واستعادة لبنان أرضه التي ما تزال محتلَّة في مزارع شبعا وتلال كفر شوبا بكافة الوسائل المتاحة بعد الإعلان الرسمي السوري عن لبنانيتها تحت مظلة الشرعية الدولية، كما نؤكِّد تمسكنا بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس وبما يضمن لفلسطينيي الشتات حق العودة إلى وطنهم تنفيذاً للقرارات الدولية.
يطالب المشاركون السوريون بضرورة الاعتراف السوري النهائي باستقلال لبنان ومغادرة كل تحفظ ومواربة في هذا المجال
ثالثاً: نؤكِّد أنَّ الاختلاف في الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين بلدينا قابل لأن يكون مصدر غنى وتنوّع وتكامل لا يحول إطلاقاً دون التعاون والتنسيق والتكامل بينهما. على أن هذا يشترط إجراء تصحيح تلك الأنظمة بناءً على مراجعة نقدية شاملة للتجارب الماضية في البلدين معاً. وإننا نعلن في هذا الصدد عن اقتناعنا العميق بأنَّ البلدين قادرين على ابتكار رؤية للتنسيق والتكامل بينهما بما يحقِّق تزخيم الطاقات والإمكانات والمزايا التفاضلية التي يزخران بها خصوصاً في مواجهة التحديات المتعددة التي تطرحها العولمة والآفاق الواسعة التي تفتحها.
رابعاً: نطالب بضرورة احترام وتنمية الحريات العامة والخاصة وحقوق الإنسان وبناء دولة القانون والمؤسسات والانتخابات الحرة وتداول السلطة ووحدة الدولة وبسط سلطتها على كامل ترابها الوطني. ونؤكِّد على الأهمية الاستثنائية التي تكتسبها مسارات التحوُّل الديمقراطي في حماية الاستقلال وتعزيز قدرات شعبينا في معاركهما الوطنية والقومية. بل نصرُّ على أنَّ سيادة نظم ديمقراطية في البلدين يشكل أفضل ضمانة لقيام ورسوخ علاقات متكافئة وسليمة بينهما. لكننا نتمسَّك، في الآن ذاته، بحق الشعبين في أن يختارا، وبكامل الحرية، النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يتلاءم وتطلعاتهما من دون أي إكراه.
خامساً: ندعو إلى إرساء العلاقات الاقتصادية بين البلدين على الشفافية والعلانية والتكامل بما يراعي المصالح الشعبية لا جشع حفنة من المتحكِّمين بالاقتصاد والسلطة. على أن هذا يستلزم، أول ما يستلزم، تحرير اقتصاد البلدين من النهب المنظَّم الذي كانت تمارسه، وما تزال، مافيات مشتركة لثروة البلدين ومواردهما مستفيدة من مواقع حماية وانتفاع في سلطة البلدين.
بضرورة احترام وتنمية الحريات العامة والخاصة وحقوق الإنسان وبناء دولة القانون والمؤسسات والانتخابات الحرة وتداول السلطة ووحدة الدولة
سادساً: ندين الاغتيال السياسي بما هو وسيلة جرمية للتعامل مع المعارضين وحل النزاعات السياسية، ونشدِّد على ضرورة تسهيل مهمة لجنة التحقيق الدولية من أجل كشف المحرِّضين والمنظِّمين والمنفِّذين في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وفي الجرائم الأخرى وتحميلهم المسؤولية الجزائية والسياسية على جرائمهم وإنزال العقوبات التي يستحقونها أمام القضاء الدولي والرأي العام. ونرفض، في مطلق الأحوال، أي محاولة لفرض العقوبات الاقتصادية وسواها على الشعب السوري.
سابعاً: نستنكر أشكال التمييز والعنف التي تمارس ضد العمال السوريين في لبنان. وفي هذا الصدد ندعو إلى تعقُّب المتَّهمين بجرائم الاعتداء على هؤلاء العمال وصولاً إلى القتل وكشفهم واعتقالهم وتقديمهم إلى المحاكمة ليلقوا الجزاء الذي يستحقون.
ثامناً: لسنا بغافلين عن المشكلات التي يثيرها وجود العمالة المتبادلة بين البلدين وخاصة العمالة السورية في لبنان وما تتركه من آثار على أوضاع الفئات العاملة ولاسيما في موضوع الأجور والضمانات الاجتماعية ما يتطلب ضرورة سن قوانين تنظم انتقال العمالة واستخدامها بين البلدين لضمان مصالح العمال واحترام حقوقهم.
تاسعاً: نعرب عن استنكارنا الشديد لاستمرار السلطات السورية في احتجاز عشرات المواطنين اللبنانيين في السجون والمعتقلات السورية وتمنُّعها عن كشف مصير أعداد أخرى من المفقودين. نضم أصواتنا بحزم إلى المطالبين بالإطلاق الفوري لهؤلاء المساجين والمعتقلين والكشف النهائي عن مصير المفقودين.
عاشراً: إنَّ العمل المشترك على تصحيح العلاقات بين البلدين وتحقيق استوائها على مقام الندية والثقة والاحترام المتبادل يستدعي مراجعة مجمل الاتفاقات والمعاهدات الموقعة بين سلطات البلدين، اختتاماً لمرحلة منقضية وافتتاحاً لأخرى تقوم على التكافؤ والتعاون والمصالح المشتركة.
سرعان ما تحركت السلطات الأمنية فاعتقلت عشرات الأفراد من الموقعين على الإعلان، وقدمت عشرة منهم للمحاكمة
لقد كان لإعلان دمشق-بيروت/بيروت دمشق أثر الرضّة على النشاط المدني في سوريا. إذ سرعان ما تحركت السلطات الأمنية فاعتقلت عشرات الأفراد من الموقعين على الإعلان، وقدمت عشرة منهم للمحاكمة هم: ميشيل كيلو، أنور البني، محمود عيسى وخليل حسين وسليمان الشمر وغالب عامر وعباس عباس، ومحمود مرعي ونضال درويش ومحمد محفوض. في حين أصدرت قرارات بمنع عدد آخر منهم من السفر خارج البلاد. وكان لهذه الاعتقالات أثرها البالغ، لأنها جاءت متابعة لاعتقالات ربيع دمشق في 2001.
وأرجع برهان غليون، الذي سيغدو أول رئيس للمجلس الوطني بعد خمس سنوات، حملة الاعتقالات الجارية الآن إلى أن النظام يتوقع أن يكون تقرير التحقيق الدولي بجريمة اغتيال رفيق الحريري سلبيا تجاهه ولذلك آثر أن يمسك الوضع الداخلي بإحكام حتى لا يتمّ استغلاله إذا كانت نتائج التحقيق سلبية. ورأى أن "بعض المثقفين والمعارضين حاولوا امتصاص الضربة التي تلقوها باعتقال 10 رموز منهم عام 2001 بما عرف بمعتقلي "ربيع دمشق"، وذلك من خلال النشاط وتشكيل الجمعيات ونشر المقالات لذلك كان القرار اليوم بإسكات جميع الأصوات دون استثناء وخلق نوع من الصمت المطبق".
بيد أن النظام لم يكتف باعتقال، فقد هاجمت الصحف الحكومية السورية المثقفين السوريين واللبنانيين الموقعين على إعلان بيروت-دمشق، ومن بينها صحيفة "تشرين" الحكومية التي قالت: "من الغرابة أن يقف هؤلاء المثقفون السوريون واللبنانيون اليوم ليصدروا بياناً يوحون من خلاله أن سوريا تهدد لبنان وينسون إسرائيل ودورها التخريبي وعدوانها الذي لا يتوقف".
ورأت الصحيفة أن "المثقف الوطني الحقيقي يدرك أبعاد الحملة الظالمة التي تتعرض لها سوريا، ولكن لا بد من بروز مجموعات نادرة تتجاهل الحقائق وترتضي لنفسها الانغماس في العيب وفي الحملات المعادية لقوى المقاومة والصمود وندرك أن هناك حتى داخل هذه المجموعات من تم تضليله بعبارات براقة، إلا أن الحقيقة ستكشف هؤلاء مهما طال الزمن".
وقالت إن الإعلان "رسم صورة قاتمة للعلاقات السورية -اللبنانية وحمل الكثير من المغالطات المكشوفة والتي لا تقنع ذوي العقل الراجح والمنطق المسند بالأدلة".
وانتهت لعبة شد الحبل بين السلطة والمثقفين المعارضين، بإخلاء سبيل ثمانية من المعتقلين، ثم إعادة اعتقال ثالث، وفرار رابع خارج القطر، واختفاء خامس عن أنظار السلطات. أما الثلاثة الذين بقوا في السجن فهم أنور البني وميشيل كيلو ومحمود عيسى، الذين حكم عليهم في شهري نيسان/أبريل وأيار/مايو بالسجن من خمسة أعوام (أنور البني) إلى ثلاثة أعوام، بتهم مثل إضعاف الشعور الوطني والتحريض على إثارة النعرات الطائفية ونشر المقالات وإلقاء الخطب، بهدف الدعاية لحزب سياسي، أو جمعية، أو تجمع سياسي محظور، غير مرخص وتعريض سوريا للأعمال العدوانية ونشر أنباء كاذبة.
وقد أثارت الأحكام القاسية ردة فعل قوية حتى من قبل مقربين ومدافعين عن الحكومة السورية، مثل الكاتب البريطاني باتريك سيل
وقد أثارت الأحكام القاسية ردة فعل قوية حتى من قبل مقربين ومدافعين عن الحكومة السورية، مثل الكاتب البريطاني باتريك سيل الذي أرسل رسالة مفتوحة إلى الرئيس السوري بشار الأسد، نشرتها جريدة الحياة اللندنية، قال فيها إن أصدقاء سوريا أصيبوا "بالحيرة والأسى، بعد صدور أحكام طويلة بالسجن بحق المعتقلين السياسيين، والناشطين من أجل حقوق الإنسان، وسجناء الرأي في سوريا. لقد أثارت هذه الأحكام القاسية اهتمام العالم بأسره، وألحقت الكثير من الأذى بسمعة بلادكم. إنني أناشدكم بكل احترام أن تعيدوا النظر في هذه القضايا، وأن تصدروا عفواً سريعاً عن هؤلاء السجناء."
وأضاف سيل أنه "مقتنع أن بقاء سجين مثل أنور البني - وهو محام محترم - في السجن، أكثر أذى بسمعة سوريا مما لو أطلق سراحه واستعاد حريته.." وطالب سيل الرئيس الأسد بإظهار "الوجه الإنساني الكريم لسوريا، وكسب التأييد الدولي لها، والالتفات إلى محنة سجناء الرأي الذين عوقبوا بشكل غير عادل في محاكمكم."
ولكن منظمات حقوقية دولية كانت أشد انتقادا، حيث قالت منظمة مراسلون بلا حدود إنه "في اليوم الذي بدأ فيه أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون زيارته إلى البلاد، وغداة مسخرة الانتخابات التي تهدف إلى تعزيز الثقة في حزب البعث الحاكم، أصدرت المحكمة قراراً يقضي بالحكم على أنور البني بعقوبة لا يمكن القبول بها. وقد أرادت السلطات السورية إعطاء مثل كفيل بوضع حد لكل الحركات المعارضة المنادية بالديمقراطية. فلم تتغيّر الأوضاع في سوريا في خلال السنوات الأخيرة لاسيما أن تسلّم الرئيس بشار الأسد مقاليد السلطة في العام 2000 لم يمهّد لبداية عهد جديد مختلف عن العهد السابق. وما كان من السلطات إلا أن ضيّقت الخناق على الناشطين والصحافيين المستقلين".
على أن أياً من هذه الطلبات لم تلق أي أذن من السلطات السورية.