لست من متابعي وسائل إعلام النظام الكيماوي ولا إعلام خط الممانعة عموماً، ليس فقط بسبب موقف أخلاقي من إعلام يكذب بوقاحة للتغطية على جرائم تقشعر لها الأبدان، ولا لأنه ممل بسبب تكراره لنفسه بحيث يكفي أن تقرأ عدداً من إحدى تلك الصحف لتعرف ما سيكتب فيها في عدد آخر يصدر بعد سنوات، بل أيضاً لأنني "اكتفيت" أو شبعت مما تقدمه، منذ أكثر من عشرين عاماً حين كان السجان يأتي بجريدة البعث، كل يوم، ويسلمها لرئيس المهجع قائلاً: "حافظ عليها ولاك!"
كنا نفصل الورقات الثلاث التي تتألف منها الجريدة فيستلمها أول ثلاثة من نزلاء مهجع "المستوصف" في سجن تدمر ذي السمعة الرهيبة، ويدور الدور على الجميع، لكل شخص 10 دقائق للورقة الواحدة، أي 4 صفحات من الجريدة. وحيث أننا كنا منقطعين تماماً عن العالم الخارجي، فيما الأشهر والسنوات تمر ببطء وقسوة وعنف، كانت "البعث" كماء البحر للعطشى، كلما شربنا منه عطشنا أكثر. ذلك أن الجريدة لا تنقل أخباراً، بخلاف دورها المتعارف عليه، ولا تعكس شيئاً من الرأي العام أو تساهم في تشكيله، في بلد ليس فيه رأي عام ولا خاص، بل شعارات جوفاء وضجيج كلامي يملأ الفضاء بالخواء. لم نكن نكتفي بقراءة الأخبار والتحقيقات وأخبار الثقافة والرياضة والاقتصاد و"المنوعات"، بل كنا نقرأ حتى الإعلانات المبوبة، وبخاصة إعلانات الوفيات، فهذه الأخيرة تتضمن، على الأقل، خبراً حقيقياً عن حدث حقيقي عن أشخاص حقيقيين، بخلاف المواد الأخرى التي يقوم على "تأليفها" موظفون احترفوا كتابة أشياء لا يؤمنون بها، بل يعرفون أنها أكاذيب.
وقعتُ، بالمصادفة، على موقع إلكتروني مؤيد للنظام الكيماوي يدعى "سفير برس" بمناسبة "مقالة" تناولت فيها كاتبتها فيلم "من أجل سما" الذي تم ترشيحه لجائزة الأوسكار لهذا العام، فئة الفيلم الوثائقي. ثار فضولي لقراءة المقالة التي حملت عنوان "برهو ووعد.. شتان بينكما.. الكرامة فعل لا حروف مزركشة".
"معايير التحرير" الخاصة بصحف النظام ووسائل إعلامه لم تتغير منذ السبعينات
أول مفاجأة واجهتني هي الصورة التي تصدرت "المقالة". صورة منقسمة إلى نصفين، من المفترض أن تتضمن صورتي صاحبي الاسمين (وعد وبرهو) وإذ على اليسار صورة فتاة ليست وعد الخطيب مخرجة الفيلم الذي تتناوله كاتبة المقالة بالتشنيع المتوقع. نفهم، إذن، أن "معايير التحرير" الخاصة بصحف النظام ووسائل إعلامه لم تتغير منذ السبعينات. يعرف السوريون أن أحد تلك المعايير الصارمة هي الامتناع عن نشر صور الشخصيات المعادية (مثلاً ساسة إسرائيل، أنور السادات بعد زيارة القدس، صدام حسين طوال عمر نظام الحركة التصحيحية، الساسة اللبنانيون غير التابعين لعنجر.. ياسر عرفات في معظم فترات قيادته السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية.. إلخ) من الطبيعي، إذن، ألا تنشر صورة لوعد الخطيب التي فاز فيلمها بعدد من الجوائز وتوج أخيراً بالترشيح للجائزة الأهم في مجال الفن السينمائي. بل من الطبيعي حتى أن تتجاهل وسائل إعلام النظام الفيلم بالمطلق كما حدث فعلاً، لكن "سفير برس" خالفت هذا الموقف لكونها وسيلة إعلام "غير رسمية" لكي تعبر عن الغيظ المكتوم من الفيلم الذي أبكى نجوم هوليود المشهورين ممن شاهدوه أثناء العروض، فكان لا بد من "توعية الشعب" للخطر الذي يشكله الفيلم في حرف الأنظار عن "الحقيقة" كما يعرّفها النظام، و"تلفيق أكاذيب" عما يجري في سوريا بهدف استعداء الرأي العام العالمي "ضد سورية"!
فقد انشغلت كاتبة المقالة أكثر ما انشغلت باللقاء الذي جرى بين وعد وابنة الرئيس الأميركي، إيفانكا ترامب، والسناتور الجمهوري ليندسي غراهام، معتبرة هذا العمل تذللاً للأميركيين للحصول على دعم. وقارنت بين فعل وعد هذا وبين "فتحو برهو" الذي قالت إنه "أوقف دورية أميركية" قرب قريته في ريف القامشلي وانتزع العلم الأميركي من فوق عربتهم العسكرية وصرخ في وجوههم قائلاً (شو عمتعملوا هون؟ هاي بلدنا..) معتبرة عمل برهو عملاً وطنياً بطولياً مقابل ما قالت إنه "انبطاح" وعد "في البلاط الأميركي".
تعود المعايير إلى التشدد مجدداً حين تنقل الكاتبة تصريحات لوعد الخطيب، نازعةً عنها الدسم إذا جاز التعبير. مثلاً: (وهاجمت "وعد" الرئيس الأميركي دونالد ترامب أثناء مشاركتها في مهرجان الأوسكار قائلة: "على ترامب تحمّل مالا يحدث في سوريا" وأضافت: "إنهم بحاجة فعلاً لتحمل المسؤولية عما يحدث...") لن يفهم قارئ المقال هل هاجمت وعد – وفقاً للكاتبة – الرئيس الأميركي لأنه يتحمل مسؤولية الخراب الذي حل بسوريا؟ أم لأنه تخاذل عن وقف هذا الخراب؟ ذلك أن معايير هذا الإعلام تمنع نقل كلام شخص معارض كما ورد على لسانه، بل يجب انتزاع كل ما يمكن أن يفهم منه "إساءة" إلى النظام أو تشهيراً بجرائمه. فيما يلي قسم آخر من التصريح المنسوب لوعد، يستحق من يفهم مضمونه جائزة كبيرة:
(وتابعت وعد: "إذا لم يكن الروس يدعمون نظاماً سعودياً، فلن نقف أبداً هنا لنخبرك عن قصة مروّعة للغاية، وسنتحدث عن نهاية ثورة مدهشة بنهاية ناجحة للغاية، ولسوء الحظ، لم يحدث هذا لأن لا أحد في الدول الغربية يتحمل مسؤوليته تجاه هذا العالم"!)
في الموقع الإلكتروني "سفير برس" درر أخرى تستحق الإشارة إليها، لكن ذلك يحتاج إلى مساحة إضافية غير متاحة هنا.