icon
التغطية الحية

إعادة التفكير في (اليوتوبيا) عند الفلاسفة المعاصرين

2024.10.18 | 15:09 دمشق

65767
+A
حجم الخط
-A

أثار مصطلح (اليوتوبيا) خيال البشرية عبر التاريخ، فلسفياً وأدبياً وسياسياً، إذ حاول الفلاسفة منذ أفلاطون أن يصوغوا عالماً مثالياً تتحقق فيه العدالة والمساواة، متخذين من اليوتوبيا وسيلة لرسم ملامح هذا العالم، واستمرَّ الفلاسفة على هذا النهج يتطلَّعون إلى صورة المجتمع الأمثل حتى وقتنا الحاضر.

إلا أنَّ مصطلح اليوتوبيا بشكله الرسمي يعود إلى المفكر البريطاني توماس مور Thomas More الذي طرح تصوره المثالي عن هذا العالم المشتهى بطريقة درامية مشوِّقة في كتابه الموسوم بـ (يوتوبيا) الذي نشره عام 1516، مزج مور في هذا الكتاب بين الفلسفة والأدب والسياسة، في محاولة منه لإبراز العيوب في المجتمعات الأوروبية في عصره، خاصة فيما يتعلق بالفساد الاجتماعي والسياسي، ثم استلهم الفلاسفة من بعده فكرة اليوتوبيا وطرحوها من زوايا مختلفة لجعلها أداة فعالة في تغيير المجتمعات.

أولاً- اليوتوبيا بوصفها أداة نقدية

يرفض بعض الفلاسفة وعلى رأسهم فريدريك جيمسون Fredric Jameson(1934-2024) الفيلسوف الأميركي الماركسي التعامل مع اليوتوبيا على أنَّها حلم لا يمكن تحقيقه، وأراد لهذا المفهوم أن يفعَّل بوصفه أداة عملية نستطيع من خلالها فهم الواقع الذي نعيشه، وانتقاد الظروف الاجتماعية والسياسية؛ لأنّ اليوتوبيا بالنسبة له قوة تكمن في الخيال، وتعمل على تركيز التفكير؛ لابتكار أنظمة بديلة عن الأنظمة الحالية في العالم، وبذلك لا تكون اليوتوبيا هدفاً مستحيلاً يسعى الإنسان طوال حياته للوصول إليه، بل وسيلة ممكنة تساعدنا على الوصول إلى الهدف الذي يمكن أن يتحقق، لذلك فهو يقول:" اليوتوبيا ليست مكاناً يمكننا الوصول إليه، ولكنَّها أفق يجب أن نستمر في السعي نحوه. إنَّها أداة نقدية للكشف عن محدودية الحاضر، وتقديم إمكانيات مستقبلية جديدة ليست موجودة بعد في الإطار الاجتماعي والسياسي الحالي"[1]، ومن خلال هذا المفهوم هاجم جيمسون النظام الرأسمالي الذي يشكِّل عائقاً يمنع الناس من تصوُّر بدائل محتملة للعالم، خلافاً للماركسية التي تدعو من خلال أفكارها إلى التغيير الجذري للنظام الاقتصادي وبالتالي الاجتماعي، وبناء مجتمع أكثر عدالة وإنصافاً.

ثانياً- نقد اليوتوبيا التقليدية

يعيد الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك  Slavoj Žižek(1949-...) صياغة مفهوم اليوتوبيا لجعله أكثر ارتباطاً بالواقع، وذلك عن طريق مهاجمة اليوتوبيا المثالية الحالمة؛ وذلك لأنّها يمكن أن تصبح أداة في تعطيل التغيير والإصلاح، ووسيلة تساعد على استدامة الوضع الراهن، وذلك عندما تجعل الناس ينشغلون بالحلم البعيد عن مواجهة التحديات السياسية والاجتماعية الراهنة، كما حدث مع الشيوعية التي كانت مشروعاً يوتوبياً، لكنَّه فشل بسبب انحرافه عن هدفه وانشغاله بما ينبغي أن يكون، بدلاً من الاهتمام بالحاضر الذي يؤسس للمستقبل، لذلك يرى جيجك "أنَّ الفشل في تخيُّل مستقبل بديل هو ما يؤدي إلى استمرار الوضع الراهن. يجب علينا أن نحتفظ بالقدرة على الحلم باليوتوبيا، لأنَّها تمثل الأمل في إمكانية التغيير"[2]، بمعنى أنّ اليوتوبيا مهمة بوصفها حافزاً، من دون أن تكون عنصر إلهاء عن الواقع، وتغييره نحو الأفضل، من خلال امتلاك الرؤية التي تفتقدها معظم الأنظمة في العالم. وبناء على ذلك فهو يؤكِّد ارتباط مفهوم اليوتوبيا بالأمل، كما شدَّد على ذلك سابقاً الفيلسوف الألماني إرنست بلوخ  Ernst Bloch في كتابه (مبدأ الأمل)، إذ لا بدَّ في رأيه من مصدر يلهم البشر لكي يسعوا نحو التغيير وتحدي الواقع الراهن.

ثالثاً- اليوتوبيا وتحدي الهوية

استطاعت الفيلسوفة الأميركية جوديث بتلر Judith Butler(1956-...) أن تتناول مفهوم اليوتوبيا تناولاً غير مباشر يخدمها في مجال اشتغالها في مجال الجندر والهوية، فقد وجدت أنَّ اليوتوبيا تعطي الشعوب فرصة لتحدي البنى الاجتماعية القائمة والعمل على تغييرها من خلال تحقيق تحولات جذرية وكاملة في المفاهيم الاجتماعية، إذ "يمكن للخيال أن يكون أداة قوية لتجاوز الظروف الراهنة. فالتفكير في مستقبل أفضل يتطلَّب منا أن نتخيل عوالم بديلة حيث تتحقق العدالة والشمولية، وتكون هذه العوالم ليست مجرد أحلام، بل خطوات نحو تغيير حقيقي[3]" وذلك يمكن تحقيقه في عالم الواقع من خلال التفاعل والتشارك ومحاولة نسف مفاهيم الهويات الثابتة، وإعادة تشكيلها وفق أسس اجتماعية، بغضِّ النظر عن العرق والجنس وغيرها من المفاهيم الثابتة، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا من خلال العمل الجماعي ضدَّ الظلم والقهر، بمعنى آخر تستخدم بتلر مفهوم التفكيك لمعرفة بناء هويات جديدة، وتكون اليوتوبيا تصوراً ممكناً لهويات جديدة تكافح ضد السياسات المهيمنة التي تعيق التقدُّم الاجتماعي في العالم.

ختاما..

إنَّ هذا المفهوم يتجاوز كونه مجرد فكرة حالمة، بل يتجسَّد بوصفه أداة حيوية للتغيير الاجتماعي والنقد لفهم الواقع الراهن مع التنبُّه لمخاطر الارتباط بأحلام غير واقعية، قد تعيق التقدم لإعادة تشكيل الهويات الاجتماعية، وتحدي البنى التقليدية، وبذلك فإنَّ اليوتوبيا تدفع الأفراد والمجتمعات إلى التفكير في مستقبل أكثر عدلاً وشمولية، والانتقال من حالات الإحباط والاستسلام إلى آفاق جديدة من الأمل والتغيير، مما يجعل اليوتوبيا ضرورة حيوية في سعي البشرية نحو تحقيق مجتمع أفضل.


[1] Jameson, F. Archaeologies of the Future. London:  Verso Books. 2005, p. 211.
[2] Žižek, Slavoj. Ideology: What Is It and How to Fight It. by Verso Books in the United Kingdom 1989. , p. .54.
[3] جوديث بتلر، قلق الجندر: النسوية وتخريب الهوية، تر: فتحي المسكيني، قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2022، ص 188.
كلمات مفتاحية