لطالما روجت إسرائيل نفسها ككيان فريد في المنطقة والعالم من ناحية أنها "الجسم الديمقراطي" الوحيد في المنطقة و"المعجزة التكنولوجية" و"الواحة الحضارية" في صحاري الشرق الأوسط الجدباء، والأهم الدعاية المرتبطة بجيشها، الأقوى والذي يتمتع بأخلاقيات عالية بشكل لا يقارن مع الجيوش والمجموعات المسلحة في المنطقة والعالم.
ومنذ اليوم الأول، أسقطت حرب غزة كثيرا من هذه الفرضيات التي كانت تهيمن على عقول كثير من العرب، بمن فيهم النخب المثقفة، وتداعى في ساعات قليلة "الجيش الذي لا يقهر" أمام ثلة من المقاتلين المزودين بأسلحة خفيفة، ولكن بإيمان ثقيل بحقوقهم، وأحقيتهم في هذه الأرض، التي هي أرض آبائهم وأجدادهم.
وبعد صدمة 7 أكتوبر التي لا تزال دوائر الاحتلال الإسرائيلي تكتشف فصولها تباعا، جاء الغزو البري لقطاع غزة محملا بأهداف كبيرة لا تقل عن القضاء التام على حركة حماس، والمقاومة في غزة، وتحرير المختطفين، والتأسيس لحكم في القطاع لا يمكن معه إعادة إنتاج المقاومة ضد الاحتلال، وهي أهداف سرعان ما تبخرت الواحد تلو الآخر. وبعد أكثر من شهرين على الحرب التي كانت عبارة عن عمليات قتل صرفة للمدنيين وتدمير شامل لكل مقومات الحياة، أكثر منها مواجهة حقيقية مع مقاتلي المقاومة، ما زالت إسرائيل عاجزة عن الوصول إلى تحصينات المقاومة تحت الأرض، وما زالت تلك المقاومة تتمتع بقيادة موحدة وسيطرة على مجريات المعركة، وقدرة على إيقاع خسائر يومية بالغزاة، عبر الزحف إلى حشودهم والاشتباك معهم من المسافة صفر، بسبب تمنع جنود الاحتلال عن النزول من مدرعاتهم أو التقدم راجلين في أرض المعركة، تهربا من مواجهة مقاتلي المقاومة. ورأينا كيف أن قائد سرية إسرائيلي انسحب هو وجنوده من أرض المعركة بسبب غياب الدعم الجوي له لمدة نصف ساعة فقط، وهو دعم لا يقتصر بطبيعة الحال على الطيران الحربي، بل الطيران المسير الذي تعج به سماء غزة للمراقبة والقصف الفوري لأي هدف متحرك، فضلا عن المسيرات الأميركية والبريطانية التي تساهم في المراقبة، بحجة البحث عن الأسرى والمختطفين، لكنها تقدم ولا شك معلومات استخبارية عن تحركات مقاتلي المقاومة لجيش الاحتلال.
أكد الأسرى الفلسطينيون المفرج عنهم من النساء والأطفال، تعرضهم لشتى أشكال التنكيل الجسدي والنفسي، بما في ذلك التجويع
وجاءت عمليات تبادل الأسرى، لتكشف جانبا آخر من زيف أسطورة "التفوق الأخلاقي" الإسرائيلي. ومقابل المعاملة الطيبة التي تحدث عنها الأسرى الإسرائيليون من جانب مقاتلي المقاومة، أكد الأسرى الفلسطينيون المفرج عنهم من النساء والأطفال، تعرضهم لشتى أشكال التنكيل الجسدي والنفسي، بما في ذلك التجويع.
والواقع أن مبالغات إسرائيل المتعمدة في الترويج لقوتها العسكرية والمستندة إلى حروب سهلة كسبتها أمام جيوش أنظمة عربية غيرة معدة جيدا للحرب، و"تفوقها الحضاري" المستندة إلى مقارنات محقة مع الأنظمة العربية الباطشة بشعوبها، كان الهدف منها تصوير إسرائيل كنموذج يحتذى به، يستحق بناء شراكات معه، بما يعود بالخير على شعوب المنطقة، أي استدراج أقوى للتطبيع والرهان على إسرائيل كرافعة "حضارية" للمنطقة، وهو ما كان يجري بالفعل على قدم وساق قبل يوم 7 أكتوبر.
غير أن هذه الصورة تضررت كثيرا ولا شك، مع الانهيار السريع، وحالة الضياع، لجيش إسرائيل يوم 7 أكتوبر، ثم عملياته المتعثرة حتى الآن في قطاع غزة أمام مجموعات المقاومين الفلسطينيين الذين يملكون فقط أسلحة بسيطة ومحدودة العدد، وبلا أي تعويض عن الاستهلاك بسبب الحصار الخانق للقطاع، مقابل تماسك المقاومة إلى حد بعيد رغم القصف غير المسبوق على مناطقهم، والاصطفاف الغربي حول إسرائيل. كما انهارت أسطورة التفوق الأخلاقي مع الجرائم الموصوفة بحق المدنيين والحرب على المستشفيات والمرافق المدنية والأممية في قطاع غزة التي يرتكبها يوميا جيش الاحتلال.
إن إسرائيل التي ما زالت حتى اللحظة، وخاصة القوى المتطرفة التي تحكم اليوم، تؤمن بشكل راسخ، بأن قوتها العسكرية، وتحالفها مع الغرب، كفيل وحده بضمان تفوقها على العرب، وردعهم عن التفكير عن مجرد التفكير بمهاجمتها أو إظهار العداء لها، تتجاهل حقائق التاريخ بأن القوة مهما تعاظمت وتغولت، لا يمكن أن تكون ضمانة أبدية وحقيقية لتحقيق الأمن والسلام.
ما ينطبق على الاحتلال، ينسحب أيضا على الأنظمة الديكتاتورية المستبدة مثل نظام بشار الأسد، الذي يعتمد بدوره أساسا على القوة الغاشمة وحدها لمحاولة إخضاع شعبه
وبرغم الانتقادات التي قد توجه لعملية المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر من جانب البعض، من حيث أنها تسببت في تدمير هائل لقطاع غزة وخسائر كبيرة في أرواح المدنيين، لكن لا شك إن ما يجري قد أعاد إلى الواجهة بقوة القضية الفلسطينية، وجعل حتى الرئيس الأميركي يعترف بأن لا حل لهذا الصراع إلا بإقامة دولة مستقلة للشعب الفلسطيني. كما أن الرؤوس الحامية في إسرائيل، سوف تستوعب عاجلا أم آجلا، أن القوة وحدها، مهما تعاظمت، لا يمكنها جلب الأمن لإسرائيل، وسوف يخرج من بين الأنقاض في كل مرة، جيل جديد، يرفض هذا الاحتلال القائم على سلب الأرض وامتهان كرامة الفلسطيني، واستباحة دمه وأرضه وحقوقه.
وبطبيعة الحال، ما ينطبق على الاحتلال، ينسحب أيضا على الأنظمة الديكتاتورية المستبدة مثل نظام بشار الأسد، الذي يعتمد بدوره أساسا على القوة الغاشمة وحدها لمحاولة إخضاع شعبه، مع تجاهل مطالبه بالحرية والكرامة، حيث لا يمكن للقوة مهما تنوعت مصادرها، أن تكون الضمانة لدوام حكم ظالم، لأن الشعوب الحية، لا تخضع لمنطق القوة إلى الأبد.