لو لم تكن إسرائيل موجودة لاخترعناها -أوجدناها- بهذه الجملة بدأ الرئيس الأميركي جو بايدن زيارته التضامنية لتل أبيب، الزيارة التي أراد من خلالها بايدن إعادة الثقة للكيان الذي هزت أركانه مجريات يوم 7/10/2023. وكان بايدن استبق زيارته بعدة تصريحات أعلن من خلالها دعمه اللامحدود لإسرائيل، رئيس الوزراء البريطاني بدوره جاء على متن طائرة عسكرية وأدى حركة استعراضية خلال نزوله من الطائرة المحملة بالأسلحة في رسالة أخرى واضحة على تقديم كل الدعم للاحتلال. منذ أول يوم للهجوم الإسرائيلي على الأراضي المحتلة انقلب حال الغرب وأظهر توحشاً غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية.
فجأة وبدون مقدمات تخلى الساسة الغربيون عن كل القيم والمبادئ والحقوق التي قاتلوا لتصديرها للعالم واستخدموا لغة في تصريحاتهم وعبر وسائل إعلامهم كالتي يستخدمها قادة التنظيمات المتطرفة عادة سواء كانت اليسارية أم الإسلامية أم حركات اليمين المتطرف، لغة فيها استحضار الديني والعرقي بشكل فج لأجل تهيئة الرأي العام لديهم لمعركة طويلة ولتبرير كل الجرائم التي ارتكبت وسترتكب لاحقا بحق الفلسطينيين. إنه سعار أصاب الغرب بكل مؤسساته وتحول إعلامه إلى شيء يذكرنا بوكالة أعماق التي أنشأها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام.
السعار وصل لدرجة تبني بايدن نفسه رواية إسرائيل عن استهداف المستشفى رغم أن الدلائل العسكرية والميدانية تؤكد أن الاستهداف إسرائيلي
مديرة معرض فرانكفورت الدولي للكتاب قالت في افتتاح المعرض قبل أيام نحن هنا لندعم إسرائيل بدون لكن، صحيفة دير شبيغل وهي أعرق صحيفة ألمانية عنونت صفحتها بخبر عن استهداف مستشفى المعمداني: صاروخ فلسطيني يصيب مستشفى في غزة. وزير الداخلية الفرنسي والذي سبق أن أعلن أنه سيعتقل كل من يكتب منشورا تضامنيا مع فلسطين صب جام حقده على لاعب نادي اتحاد جدة الفرنسي كريم بنزيمة فقط لأنه تعاطف مع أطفال غزة، ونائبة في البرلمان الفرنسي طالبت بسحب الجنسية منه، وأوساط إعلامية فرنسية طالبت بسحب كل الألقاب الرياضية بما فيها الكرة الذهبية والتي تمنحها فرانس فوتوبول سنويا لأفضل لاعب في العالم، يحدث هذا في فرنسا التي مارست التضييق في السنوات الأخيرة بشكل كبير على الجاليات المسلمة لدرجة تتدخل فيه الدولة حتى في ما يريد أن يلبسه المسلمون، وفي الوقت ذاته تعرض جماجم ضحاياها في المتاحف!
السعار وصل لدرجة تبني بايدن نفسه رواية إسرائيل عن استهداف المستشفى رغم أن الدلائل العسكرية والميدانية تؤكد أن الاستهداف إسرائيلي، جامعات عريقة ومؤسسات أكاديمية غربية تلقت تهديدات بوقف الدعم في حال أقامت أي نشاط داعم لوقف استهداف المدنيين في فلسطين.
لكن.. لماذا كل هذا السعار الغربي؟
الغرب وعلى رأسه أميركا وبريطانيا شعروا بالمهانة وأصابهم جرح عميق في كبريائهم وغرورهم بعد الهجوم الكبير الذي قامت به فصائل فلسطينية على الجيش الإسرائيلي الموجود بين المستوطنات في الأراضي المحتلة، هذا الهجوم هز صورة الكيان الذي أوجده الغرب كقاعدة عسكرية متقدمة له في الشرق الأوسط قرب منابع النفط وقرب الممرات الاستراتيجية والتي تصل شرق العالم بغربه وجنوبه بشماله. الغرب الذي طالما ردد أن إسرائيل هي واحة الديمقراطية في صحراء المنطقة -العربية- وأن جيشها لا يقهر، أوجدوه أيضا تحت ذريعة التخلص من عقدة ذنب لازمتهم لأنهم هم من ارتكب المجازر ونصب المحارق لليهود سابقا خلال حروبهم الطاحنة. الوزير الإسرائيلي الذي وصف الفلسطينيين بأنهم حيوانات بشرية كان ينطق بلسان حال الغرب برمته، فالغرب يرى بقية البشر بمرتبة أدنى منه حتى على مستوى القدرات العقلية، هناك منظرون غربيون كثر كتبوا في بداية صعود الليبرالية الغربية عن تفوق العرق الأبيض وأنه وحده من يجب أن يسود العالم وبقية البشر ليسوا أكثر من مجرد عبيد ومستهلكين للمنتجات والأفكار والقيم التي يريدها الرجل الأبيض، عنجهية وغرور وصلت لحد أنهم عاقبوا لاعبا ليس لأنه هاجم المثليين جنسيا بل لأنه رفض إبداء التعاطف معهم في وقت يعاقبون كل لاعب أو فنان أو أي شخصية عامة بالإقصاء لمجرد إبداء تعاطف بسيط مع أطفال غزة، الغرب يريد منا أن نقبل قشور حضارته وقيمه دون أي نقاش وأي حق في التساؤل وفي الوقت ذاته يدعم الديكتاتوريات في وجه أي حراك ديمقراطي في رسالة مختصرة وواضحة: الديمقراطية لنا لأننا أسياد الكوكب والعبيد ليس لهم سوى الفتات وإن اعترضوا فلهم الموت.
لا يمكن الفصل بين الغرب وإسرائيل لأن هذا الكيان هو انعكاس لصورة الغرب الحقيقية وكل ما يقوم به في المنطقة مجرد دور وظيفي، ولأن إسرائيل متغلغلة داخل البنية السياسية والثقافية للغرب بشكل يستحيل معه الفصل بينهما. كيف سنصدق الغرب عن ديمقراطية إسرائيل وهو يدعم يهوديتها أي أن تكون دولة اليهود وحدهم.. هل يمكن الجمع بين الديمقراطية وبين يهودية الدولة؟ بالطبع لا لكن الغرب الذي يريد منا أن نكرر خلفه أن الفلسطينيين هم من قصف المستشفى في غزة هو ذاته من يريد أن نقبل بوجود كيان يهودي في منطقتنا.
انهار كل شيء بسرعة وكشر الغرب عن أنيابه التي كدنا ننساها خلال عقود من الكلام المعسول عن الحريات والقيم رغم وجود عشرات الشواهد على توحشه الأعمى
ونحن نتابع الإعلام الغربي وتصريحات قادته نشعر وكأن الدول الغربية دخلت في حالة حرب وأعلنت تطبيق الأحكام العرفية في مجتمعاتها في تطبيق حرفي لمقولة جورج بوش الابن بعد هجوم تنظيم القاعدة على برجي التجارة: من لم يكن معنا فهو ضدنا!
انهار كل شيء بسرعة وكشر الغرب عن أنيابه التي كدنا ننساها خلال عقود من الكلام المعسول عن الحريات والقيم رغم وجود عشرات الشواهد على توحشه الأعمى من هيروشيما وصولا لمجزرة ملجأ العامرية في بغداد وغيرهما الكثير من الجرائم التي ارتكبها الرجل الأبيض، لا حوار حضارات ولا تنظير لحوار الأديان كل شيء اختفى وكأنه لم يكن. وحشية سيكون لها تداعيات على المدى القريب والبعيد، وإذا كانت هزيمة 67 واحتلال القدس نتج عنه ظهور التنظيمات الجهادية وصولا لتنظيم القاعدة بالإضافة لنشاط منظمة التحرير الفلسطينية عسكريا خارج فلسطين، وإن كان تغلغل إيران في العراق بعد الغزو الأميركي نتج عنه ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام فإن المذبحة الحالية بحق الفلسطينيين والإهانة التي يوجهها الغرب للعرب والمسلمين سينتج عنها تنظيمات وحركات كثيرة ترفع راية استعادة جزء من كرامة هذه الشعوب المقهورة.