دولة منسية، بعيدة من اهتمام العرب، على الرغم من كونها بوابتهم على إفريقيا، وشريكتهم في شواطئ البحر الأحمر، وتضم أشقاء لهم في اللغة والجذور والدين.
إنها إرتيريا، الدولة الواقعة في شمال شرقي القارة السمراء فيما يُعرف بالقرن الإفريقي، والتي تجاور إثيوبيا والسودان وجيبوتي، ممتدة على مساحة تتراوح بين 117 ألفاً و 124 ألف كيلومتر مربع، أما عدم تحديد مساحتها بشكل نهائي فيعود إلى نزاعاتها الحدودية المتواصلة مع الجارتين إثيوبيا والسودان، فالحدود تتحرك بشكل متواصل تبعاً لظروف الحرب والسِّلم.
حرب التحرير و"الاحتلال الوطني"
خضعت إرتيريا لعدة احتلالات أجنبية منذ نهاية القرن التاسع عشر، فقد احتلها الإيطاليون حتى عام 1941، ليأتي بعدهم الانتداب الإنجليزي، وما إن انتهى بعد نحو عقد من الزمن حتى احتلتها الجارة إثيوبيا لمدة ثلاثين عاماً كانت الأسوأ والأكثر دموية في تاريخ البلاد، ولم تحظ إرتيريا باستقلالها التام إلا عام 1993، لتُصاب بنكبة جديدة على يد "قائد ثورة تحريرها" أسياس أفورقي الذي حررها من العدو ليحتلها، فقد كان أول رئيس لها بعد الاستقلال، ورئيسها الأوحد حتى اليوم، مخرجاً إياها من سباق التمدن والتحضر والمعاصرة إلى الفقر والجهل والنزاعات الداخلية والخارجية التي لا تنتهي.
ومن النزاعات التي تخوضها إرتيريا على المستوى الداخلي محاولة إقصاء العرب فيها والقضاء على لغتهم التي كانت اللغة الرئيسية للبلاد في مرحلة ما، وأحد اللغتين الرئيستين إلى جانب التجرينية في كل المراحل من عمر الدولة.
لا يخفي رئيس النظام أسياس أفورقي كرهه للعرب، فهو منذ انضمامه إلى صفوف "جبهة تحرير إرتيريا" عام 1965 بقيادة حامد عواتي آنذاك، أبدى اعتراضه على مسعى الجبهة الانضمام إلى جامعة الدول العربية
ولا يخفي رئيس النظام أسياس أفورقي كرهه للعرب، فهو منذ انضمامه إلى صفوف "جبهة تحرير إرتيريا" عام 1965 بقيادة حامد عواتي آنذاك، أبدى اعتراضه على مسعى الجبهة الانضمام إلى جامعة الدول العربية، ولم يلبث أن انشق عن الجبهة وشكل "الجبهة الشعبية لتحرير إرتيريا" عام 1977، وبعد الاستقلال عام 93 أقصى رفاقه في النضال فقتل بعضهم واعتقل آخرين واستفرد بحكم البلاد "إلى الأبد".
وواصل أفورقي سياسة الابتعاد عن العرب، فلم ينضم إلى جامعة الدول العربية إلا بصفة "مراقب" عام 2003، في حين أقام علاقات وثيقة مع عدوي العرب "إسرائيل وإيران"، فمنذ الاستقلال أقامت إرتيريا علاقات دبلوماسية كاملة مع "إسرائيل" على الرغم من دعم الكيان لإثيوبيا طوال احتلالها لإرتيريا، وفي عام 2009 زار أفورقي إيران وفتح الباب لتعاون وثيق بين النظامين، ما سمح لطهران بدخول المنطقة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، والأهم من ذلك، ثقافياً، إذ نشطت البعثات الثقافية والتعليمية التي هي وسيلة إيران لنشر التشيع واللغة الفارسية.
حرب على اللغة العربية
في مقابل الانفتاح على "إسرئيل وإيران"، عمد أسياس أفورقي إلى عزل إرتيريا عن محيطها العربي، محاولاً قطعها عن تاريخها وجذورها الممتدة إلى الجزيرة العربية واليمن، فمعظم قبائل إرتيريا أصولها من هناك، وكذا معظم لغاتها سامية متحدرة من العربية القديمة، وأول هجرة في الإسلام كانت إلى "الحبشة" التي تشكل إرتيريا جزءاً منها، على أن اللغة العربية وصلت إلى إرتيريا قبل تلك الهجرة وفق ما يؤكد المؤرخون.
في إرتيريا تسع قوميات وتسع لغات، منها التجرينية والعربية والتجرية وساهو وباجة والعفارية والدهلكية. وتمثل اللغة العربية القاسم المشترك بين مجموع هذا التعدد اللغوي الواسع
وفي إرتيريا تسع قوميات وتسع لغات، منها التجرينية والعربية والتجرية وساهو وباجة والعفارية والدهلكية... وتمثل اللغة العربية القاسم المشترك بين مجموع هذا التعدد اللغوي الواسع، وغالباً ما يجري التفاهم بالعربية بين الجماعات التي لا يعرف بعضها لغة بعض، إضافة إلى الجماعات التي تتحدث العربية وحدها مثل الرشايدة. وقد اتخذ البرلمان الإريتري، قبل أن يحله الإثيوبيون، من اللغة العربية لغة رسمية لإريتريا إلى جانب اللغة التغرينية بحسب المادة 38 من الدستور الإريتري، وكانت اللغتان العربية والتغرينية تدرسان في المدارس قبل أن تمنع ذلك إثيوبيا، ومما ساعد على اقتصار التعليم بهاتين اللغتين كونهما الوحيدتين اللتين تمكن الكتابة بهما.
وبعد الاستقلال ضيق نظام الرئيس أفورقي على اللغة العربية، فأقفل كثيراً من مدارس تعليمها، وضيق على الصحافة الناطقة بها، ساعدته في ذلك بعض الكنائس التي أقنعها النظام بأن تمدد اللغة العربية يساعد في انتشار الإسلام أكثر فأكثر ويهدد الوجود المسيحي في البلاد!.
واليوم لا نجد إلا صحيفة واحدة "إرتيريا الحديثة" ناطقة باللغة العربية، إضافة إلى جزء بسيط من بث الفضائية الإرتيرية بالعربية، وهما لسان حال النظام الحاكم.
أما العربية فتُدرَّس لغة أولى في بعض المدارس، ولغة ثانية "أجنبية" في معظم مدارس البلاد.. أما التعليم الجامعي، فليس في إرتيريا جامعات، فقد أغلق أفورقي الجامعة الوحيدة في العاصمة "أسمرة" عام 2000 على إثر احتجاجات طلابية، واستعاض عنها بمعاهد علمية متناثرة.
والمفجع في الأمر أن ثورة التحرير الإرتيرية حظيت بدعم عربي لا متناهٍ، تمثل بدعم عسكري واقتصادي وسياسي وثقافي.. فقد تبنت دول مثل مصر وسوريا والعراق وغيرها الثورة الإرتيرية وأمدتها بكل أسباب الحياة والمقاومة، وقد استشتهد كثير من الشباب العربي في ساحات النضال من أجل تحرير إرتيريا.
ويكفي أن نذكر مثلاً بعض الدعم المقدم من سوريا لثورة إرتيريا في مجال التدريب العسكري، فقد دربت سوريا في الستينيات مئات المقاومين فكانت أول دورة في العام 1963م تلتها الدورة الثانية في العام 1966م فدورة ضباط الاحتياط في العام 1966م في حلب وتوالت الدورات فكانت الدورة التدريبية الثانية في العام نفسه 1966م، وقد وصل عدد الدورات الى خمس دورات حتى العام 1968م، فضلاً عن الدعم العربي بالمال والسلاح، ليكون جزاء العرب أن يقيم أفورقي علاقات دبلوماسية مع أعدائهم، ويحارب لغتهم وقومهم... وليت الشاعر العربي مظفر النواب كان في وضع يسمح له بالتعبير عن سياسة أفورقي ونظامه، فقد قاتل النواب إلى جانب ثوار إرتيريا عام 1978، كما فعل كثير من مثقفي ومناضلي العرب آنذاك، حتى الفلسطينيون المنشغلون بقضيتهم كان لهم أياد بيضاء في تدريب ثوار إرتيريا ومشاركتهم الكفاح المسلح.