في صيف عام 1995 هاجمت قوات صربية مدينة سربرنيتشا البوسنية،، وقتلت نحو عشرة آلاف رجل وامرأة وطفل في مجزرة مروعة تحت عين الكتيبة الهولندية التابعة للأمم المتحدة والمكلفة بحماية البلدة. ظلت تلك المجزرة مثالا تاريخيا صارخا على عجز وتخاذل وفشل المنظمة الدولية، حتى جاء التعامل المخزي للمنظمة الأممية مع الزلزال المدمر في شمال غربي سوريا، ليضيف فصلا آخر من الفشل إلى سجل المنظمة الأممية.
مشكلة الأمم المتحدة لم تكن بسبب قلة الموارد، أو ضعف الإمكانيات، بل في غياب الرؤية، والتجاهل المروع لأوضاع السوريين، والأخطر من ذلك ذهاب هذه المنظمة إلى مقاربات أكثر إيلاما من الزلزال ذاته بدعوى إغاثة المنكوبين، فعمد المسؤولون الأمميون بعد نحو أسبوع كامل من المماطلة، واختلاق الذرائع، ليضعوا إمكانية الحلول بيد نظام دمشق، دون أي اعتبار لمسؤوليته المباشرة عن الجرائم والأوضاع التي جعلت من الزلزال بهذا التأثير المأساوي.
لقد كشفت التداعيات الإنسانية للزلزال عن الوضع الشاذ للقضية السورية على الأجندة الدولية، فهي رغم فداحة ما تسببه من خسائر وأوضاع كارثية للملايين، غابت عن الاهتمام الدولي منذ سنوات، بل ولم تعد أصلا جزءا من عناوين الأخبار، ولا من انشغالات رجال الإعلام، حتى جاءت الكارثة الحالية، لتعيد إنتاج مشاهد تسبب بها قصف قوات النظام أو القوات الروسية أو الإيرانية.
جاءت مشاهد الدمار التي أحدثها الزلزال، ليست بعيدة عن نفس الأثر الذي كان يحدثه قصف المدن الثائرة، سواء بالأبنية المهدمة، أو دفن الأحياء تحت الأنقاض، أو صعوبات الإنقاذ وانتشال أحياء من تحت الركام، بل إن مئات الهزات الارتدادية التي أعاقت عمليات الإنقاذ، أو دمرت ما تصدع من الزلزال، كانت تشبه بدورها، عمليات القصف التي كانت تستهدف المنقذين، كي لا يكونوا موجودين في المرات التالية، فيزيد عدد الضحايا، وتنهار معنويات الناس.
ووسط هذا التماثل المروع بين قسوة الطبيعة، وجرائم النظام، بدا عجز العالم، أو ربما تكاسله، عنصر الشبه الأكثر إيلاما، فهو كان بطيئا بشكل مستفز في التعامل مع كارثة الزلزال، فتدرجت الأمم المتحدة في أعذارها من محاولة (تقييم الوضع) إلى (تهيئة الموارد) قبل أن تقف أمام تدمير الطريق المؤدي إلى معبر باب الهوى على الحدود مع تركيا، لتتذرع بانتظار إصلاح الطريق، وهي تدرك أن تركيا المنشغلة بكل طاقتها في إغاثة الملايين من سكانها، قد لا تكون في وارد التعامل مع ذلك الأمر بالسرعة الكافية.
كانت الأمم المتحدة مخيبة للآمال، وفشلت في إمداد المنقذين في شمال غربي سوريا حتى بالمعاول، لم تقدم أي مساعدة خلال الأيام الأولى الحاسمة، وحينما دخلت المساعدات أخيرا، تبين أنها كانت جزءا من مواد المساعدات المقررة والمجدولة سابقا بموجب القرار 2642 وكانت محتجزة في تركيا بسبب الزلزال، وليست مواد إغاثية عاجلة، ولم تتضمن أيا مما تتطلبه عمليات الإنقاذ، أو الاحتياجات الطارئة للسكان بسبب الزلزال.
ما يحتاج له المنكوبون اليوم، لم يعد الغذاء والدواء أو معدات الإنقاذ فقط، بل التوقف فورا عن التواصل مع النظام، وتعزيز آليات عزله، ومراجعة أوضاع المناطق المحررة من خلال المعارضة وممثليها
الأخطر من ذلك، أن الموظفين الأمميين الذين زاروا سوريا تعمدوا البدء من المناطق الخاضعة للنظام، ورهنوا زيارة المناطق المحررة وإدخال المساعدات لها بموافقة رئيس النظام، وهم بذلك لم يضيعوا فقط وقتا ثمينا تسبب بوفاة مزيد من العالقين تحت الركام، بل إنهم منحوا نظاما مارقا ومعزولا بموجب القرارات الدولية، فرصة لم يكن يحلم بها، لادعاء الشرعية والتباهي بالسيطرة، والظهور بمظهر من يمنح ويمنع، ليبدو وكأنه يوفر تسهيلات لمساعدة من هم أصلا من بين ضحاياه، وقد اقترف بحقهم أضعاف ما سببه الزلزال من جرائم متعمدة.
هذا السلوك الأممي جاء أكثر إيلاما من العجز والفشل عن المسارعة في الإغاثة، ولولا مواقف بعض الدول مثل الولايات المتحدة وفرنسا، ربما لصدر من مجلس الأمن ما ينتهك به قراراته السابقة التي تدين الأسد ونظامه بجرائم ضد السوريين.
وحسنا فعلت منظمات الإغاثة على الأرض حينما أصدرت بيانا يرفض أي مساعدات ترد إلى المناطق المحررة من بوابات يسيطر عليها النظام، أو يوافق عليها، فتلك ستكون مساعدات مضرجة بالإذلال، والتشفي، وهو ما رفضه الشعب السوري من قبل، ودفع من أجله تكاليف وتضحيات أكبر بكثير من تداعيات زلزال مدمر.
الأمر الآخر الجدير بالاهتمام أن جزءا ملموسا من الدمار الذي حاق بالمدن المحررة، وحجم الخسائر البشرية فيها، ناجم عن انعدام الاهتمام الدولي بالقضية السورية منذ سنوات، وعدم محاولة تخطي الفشل في إيجاد حل سياسي ناجز وعادل، أو تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، والاكتفاء بالتعامل مع الأزمة السورية على أنها مجرد قضية لاجئين يمكن حلها بإيصال مساعدات غذائية تكفي لمنع المجاعة وتداعياتها على المنطقة والغرب، حتى جاء الزلزال ليكشف أن الامر أكبر بكثير من ذلك.
تلك البنية التحتية المتهالكة والمتصدعة أصلا في شمال غربي سوريا بسبب القصف، والكثافة السكانية الضخمة في مناطق جاءها النازحون من كل أنحاء سوريا، من غير أفق لعودتهم سالمين لمدنهم وقراهم في سياق حل دائم للأمة، وتعايش الأمم المتحدة ومؤسساتها مع وضع يعيش فيه ملايين السكان في سجن كبير، جعل آثار الزلزال قاسية ومدمرة وترك الناس بلا قدرة على إنقاذ أهاليهم أو توفير الرعاية للناجين.
ما يحتاج له المنكوبون اليوم، لم يعد الغذاء والدواء أو معدات الإنقاذ فقط، بل التوقف فورا عن التواصل مع النظام، وتعزيز آليات عزله، ومراجعة أوضاع المناطق المحررة من خلال المعارضة وممثليها. بل البدء بمراجعة الإخفاق في حل القضية السورية، وإيجاد مناخ لحياة طبيعية لهذا البلد، حيث يمكن لشعبه أن يتوفر على حياة كريمة وقدرة على دعم نفسه وتلقي العون حيث يتطلب الأمر دون ذرائع كل هدفها تغطية الفشل.