في دراسة بحثية عن تعليم ذوي الإصابات والإعاقات قابلت فيها شخصياً كثيرين من ذوي الهِمَم، منهم مَن بُترت ساقاه أو شُلّت حركته فبات على كرسيّ، أو فقدَ رجلاً فهو يضرب الأرض بعكّازه كأنه يُؤنّبها، أو انطفأت إحدى عينَيه فهو ينظر بالأخرى كأنه يوبّخ....، أو فتاة في عُمر الورد فهو يخجل منها لجمالها وحيائها ولفرط حماسها وشجاعتها.
أعترف أنها أقسى مقابلات دخلتُ فيها رغم أنني خبرت التدريس والتدريب في المدارس والجامعة وبالمراكز والمؤتمرات؛ إما لأنني كنت أتفقد في نفسي ما أفتقده في مَن هم أمامي فأحمد الله على العافية، وإما لأنني أستصغر عملي وكل ما توسوس لي نفسي بعظمته وكثرته خلال عشر سنوات من الثورة لا يعدل أصبعاً مقطوعاً في رِجل مصاب ولا كفّاً مبتورة في يد مصابة، وإما لأنها حالات تضعنا جميعاً أمام حقيقة المشهد الذي انتهينا إليه وسط التِّيه في غابة الفاعلين المتنافسين بنا وعلينا.
لكنّ الذي كان يشدّ من عزيمتي على الاستمرار مع أنني كدت أنهارُ من المقابلات الثلاث الأولى: قلة العناية بأهمّ شريحة مظلومة في الساحة السورية -وهم المصابون وذوو الإعاقات- بحثياً وثقافياً ومهنياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وانصراف الهمّ عند أكثر المشتغلين بالمصابين إلى الجانب الطبي وتأمين المسكّنات الدوائية واللوجستية دون التعليم والتثقيف وإعادة التأهيل، وتأكيد ضرورة العمل المكثّف على تحقيق اندماج المصابين بالمجتمع لأننا لن ننهض وجناحنا هذا مكسور نفسياً وتعليمياً واقتصادياً؛ فإن كنّا نأمل أننا على أبواب التعافي، وإنْ في جزء يسير من سوريا الحرّة التي نحلم بها - ولم يُترك لنا كذلك دون منافسة وتخريب - فلا تعافي ولا إعمار على الحقيقة دون تعليم شامل دامج تتساوى فيه الفرص المتاحة – على قلتها – للمصابين وغيرهم.
لا يخلو بيت في سوريا من حالة أو أكثر من الإصابات والإعاقات لأن 28% من السوريين اليوم باتوا تحت هذا التصنيف المؤلم "مصاب – معاق"
هيّأتُ نفسي لأسمع قصص الإصابات في التمهيد لموضوع المقابلات، لكنني فشلت كذلك في تخمين ما قد أقف عليه منها؛ فلا يكفي مثلاً أن تسمع من مبتور الطرفَين أنها كانت بسبب قذيفة هوت بالمنزل فوقهما فبقيا مع الركام، بل تضطر لتسمع حديثه عن رحلته المضنية مع العلاج وعن السجن النفسي الذي بقي لشهور أو بضع سنوات حبيسه لا يغادره، مع أنه اضطر إلى مغادرة مسقط رأسه في التهجير القسري لأهل منطقته إلى الشمال!! ولا أن تخمّن لفاقد العين سبب انطفاء عينه مع الشظايا التي ما زالت في رأسه تشهد بما يعانيه من الصداع الأشبه بالصرع؛ فمعها ستعرف أن ابنته التي أسعدتْه في إصابته وخفّفت من معاناته قد أُصيبت هي الأخرى في حادث سير في طريق التهجير القسري، فشُوّه وجهها البريء وخضعت وهي ابنة سنوات خمس لعدة عمليات، لتكتمل قصته بانفصال زوجته عنه لفقره وتراكم مصائبه!! ومع وردة ذات ثمانية عشر ربيعاً في مخيم للمهجَّرين بإدلب مصابة في رجليها فهي على كرسي إعاقة، لا تقف المأساة عند معرفتك أنها من ضحايا القصف الروسي الأسدي المجرم على مدرسة البنات في قرية "حاس"؛ بل ستعرف أنها هُجّرت كذلك مع أهلها لشدة القصف وبحثاً عن علاجٍ لها، وأنها حُبست مدةً مع إصابتها بنفسية محطّمة، قبل أن تخرج بالتعليم من محبسها في الخيمة مع إصابتها.
ومآسٍ أخرى ترقّق بعضها، ولو أنها جُمعت كلها في مقال واحد لسالَ لها الدم مع الدمع قهراً وحزناً وألماً.
إنها جزءٌ يسيرٌ من حالات أعلنت المؤسسات الدولية أنها بلغت من عموم السكّان في سوريا نسبة 28%؛ يعني أنه بحقّ لا يخلو بيت في سوريا من حالة أو أكثر من الإصابات والإعاقات لأن 28% من السوريين اليوم باتوا تحت هذا التصنيف المؤلم "مصاب – معاق"، دون تمييز في هذا الألم بين "الدول" أو "المناطق" التي باتت سوريا مقسمة بينها بحكم الواقع والتدخل؛ فحسب التقرير: 37% في مناطق سيطرة "قسد" يعانون من إعاقة؛ وهي أعلى نسبة من بين المناطق الأربع، و19٪ في مناطق الجيش الوطني والحكومة المؤقتة؛ وتحافظ على أدنى معدل انتشار للأفراد المصابين المعاقين، و27% في مناطق الأسد، و28 % في منطقة إدلب.
ولكن.........
مما استوقفني في مخرجات المقابلات أمران يستحقّان النظر والاعتبار؛ فالأول أنها كانت مع مصابين ذوي إعاقة لكنهم في طريق التعليم الجامعي، والثاني أن كثيراً منهم يعملون ومصدر رزقهم ومصروف دراستهم من عمل أيديهم.
والذي يستوقف الناظر ليس أنهم يتابعون تعليمهم الجامعي رغم إصاباتهم فحسب، بل ما ذكروه من السبب الدافع بدرجة أولى للتعلم؛ فهو كما قال أكثرهم: "إثبات الذات وتحدّي الإعاقة"، وتقدّم هذا الدافع عند كثيرين منهم حتى على "البحث عن فرصة عمل".
وفي الإصرار على هذا الدافع لمصابين ذوي إعاقات "إثبات الذات وتحدّي الإعاقة" دروسٌ عديدة؛ فأول ذلك أنهم يواجهون مجتمعاً لعل فيه من المرض والتشوّه أكثر مما فيهم، فلو أنه مجتمع مستقيم متعافٍ لَـمَا لزمهم أن يتحدّوا ويثبتوا ذواتهم؛ فالواضح أن المجتمع لم ينصفهم وفي أرقى حالاته ينظر إليهم نِظرة "عطف وأسى" فقط، وأن السبيل الأول لكسر قيود الإعاقة هو التعليم فما بقي لنا بعد سنوات عشر عجاف هو التعليم كما قال بعضهم، فإن كان مصابون معاقون يدركون هذا فلعل المتعافين السليمين يدركون ذلك ويولون التعليم ما يستحق من الأهمية والاهتمام، وكذلك ففيه دلالة لغيرهم من المصابين والمعاقين الذين ما زالوا حبيسي الإعاقة على مفتاح الخروج والفكاك، فضلاً عن التنبيه العام على ما تتركه الإعاقة في نفس المصاب من الأثر الجارح الذي لم يندمل وتخفف من آلامه الأدوية والمسكّنات التي تترك مضاعفات وآثاراً جانبية بقدر ما خفّف منها التعليم؛ فقد عبّر أكثر من مصاب ومصابة أنهم عانوا من انهيارات نفسية واكتئاب لمدة بعد الإصابة وكان الفرج عليهم والانتشار بسلوك طريق التعليم الجامعي بشكل خاص.
الغالبية من 32 مصابا ومصابة قابلناهم يعملون حالياً رغم إصاباتهم وإعاقاتهم، والغالبية منهم متزوجون وعندهم أطفال، وفي إصرارهم على العمل مع التعليم رغم الإصابات والإعاقات دروس
وأما الأمر الآخر فهو العمل بسؤال "ماذا تعمل حالياً؟"، وهو ما أعترف كذلك أنني وضعته لقياس ما كانوا عليه قبل الإصابة وحتى لا أجرحهم بالسؤال الرجعي "ماذا كنت تعمل قبل الإصابة؟" فقد كانت المفاجأة أن الغالبية من 32 مصابا ومصابة قابلناهم يعملون حالياً رغم إصاباتهم وإعاقاتهم، والغالبية منهم متزوجون وعندهم أطفال، وفي إصرارهم على العمل مع التعليم رغم الإصابات والإعاقات دروس كذلك؛ فأول ذلك أننا نعود إلى الدائرة الأساسية في اختيارهم "إثبات الذات وتحدّي الإعاقة"، فلا نعجب عند هذا من مصاب ببترٍ في ساقه وشظايا في جسمه تخرّج قبل الإصابة في كلية الرياضة أنه يعمل مدرب كاراتيه بساقٍ واحدةٍ، ويعيل نفسه وأسرته من عمله، وقد جدّد دراسته الجامعية في تخصص آخر. ومصاب آخر بعينٍ واحدةٍ وشظايا ما زالت مستقرة في رأسه قد تضاعف بلاؤه بإصابة ابنته ووحدانيته معها، ودراسته في منطقة بعيدة من محل إقامته؛ لكنّه يصرّ على تحدّي الإصابة بمتابعة الدراسة، وبالعمل الشريف فيما يتيسر له من الأعمال الحرّة حتى ينهض بأعباء بيته وطفلته ودراسته، دون أن يركن للمساعدات وللناس أعطوه أو منعوه. وسيدة متزوجة مصابة ببترٍ في ساقها كانت تعمل مدرّسة قبل إصابتها وهي تكمل تعليمها الجامعي، هي بحاجة ماسّة لطرف صناعي وعلاج فيزيائي مستمر، وحُرمت مهنتها الرساليّة "التدريس" لحرمانها بالإصابة من متابعة تحصيلها؛ فانتقلت إلى عمل آخر ضمن حقول العمل الإنساني ودعم الأقران، لتساعد في إعالة أسرتها وعفافها.
لأقف باحترام وإجلال وأقرّ لهم بالنجاح عموماً في "إثبات الذات وتحدّي الإعاقة"، مع الألم والأسى على كثيرين في عافية وسلامة أقعدهم العجز وأعاقهم عن التعليم وعن العمل؛ ليدور في الرأس مع إشارات الاستفهام والتعجب: كم من معافى معاق؟ وكم معاق معافى؟